فخ التدخل الأمريكي.. يطفئ الحرب أم يشعل العالم؟

لا يُعَد التدخل الأمريكي في الساعات الأخيرة، بتوجيه ضربة مباشرة نحو أهم ثلاث منشآت نووية إيرانية، هو التدخل الأول في الحرب الناشبة بين الجانبين الإيراني والإسرائيلي. فأمريكا هي الحاضر الأساسي في هذه الحرب، كما كانت دائما في كل المواجهات التي تقع فيها تل أبيب، بالدعم الكامل بالعتاد والسلاح، إضافة إلى الدعم اللوجستي المعلَن وغير المعلَن.
فالحرب الحقيقية هي بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، وإن كان الخاسر الأكبر فيها هو الجانب الإسرائيلي، الذي تعرَّض لأكبر عملية هجوم على مدنه منذ إنشائه وغرسه في الشرق الأوسط.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsغزة بين التهجير ونزع السلاح: ماذا وراء مفاوضات الهدنة؟
الصين بين زعيم خالد وروح لا تموت
شهاب.. سائق “التوك توك” مذنب أم ضحية السرد الناقص للكاميرا؟
والصراع القائم بين الجانبين الإيراني والإسرائيلي ليس صراعا مستحدثا أو عارضا، وإنما هو صراع قديم، تجدد بقوة بعد إعلان إيران الدعم الكامل للفلسطينيين في حربهم الجارية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
فاشتعاله منذ أيام لم يكن مفاجأة، لكن التصعيد الخطير والتدخل الأمريكي نقل الحرب القائمة إلى أبعاد أكثر خطورة، لن تؤثر في أمن المنطقة وحدها، وإنما قد تجر العالم كله إلى أهوال سوف تغيّر الوجه الحضاري له. وسوف يشهد التاريخ أنه في الثاني والعشرين من يونيو/حزيران 2025، أدخلت الولايات المتحدة العالم في ممر غير آمن، سوف يدفع ثمنه طويلا.
لم تعد تل أبيب في أمان مطلق
وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب -الذي يسعى لتحقيق أي نصر يقدمه لشعبه أو للوبي الضاغط عليه- الضربة الأمريكية بأنها “بالغة التأثير”. وأكد مرارا، في أكثر من عبارة واضحة، أنها “دمرت تماما” المواقع النووية الإيرانية.
والحقيقة أن التأثير الفوري والأسرع كان في تل أبيب، حيث انتظر العالم الرد الإيراني على تلك الضربات التي أنكرت تأثيرها، والذي صوَّره الرئيس الأمريكي في تصريحات سريعة ومركزة في وقت وجيز.
لكن العالم -خاصة العربي- لم ينتظر طويلا، كعادة طهران في كل مرة، فكان الرد أسرع من التوقع. ووقعت تل أبيب تحت زخات الصواريخ والمسيَّرات الإيرانية، مع إعلان سقوط قتلى ومصابين بعدد كبير بالنسبة للإسرائيليين، وتهديدات إيرانية واضحة باستهداف أي جندي أمريكي في المنطقة، في إصرار إيراني على تصعيد مقابل دون أدنى تفكير في الرضوخ للتهدئة.
وفي أعقاب الضربة الأمريكية، كان الرد الإيراني بليغا في أنه ليس الخاسر الوحيد، إن كانت ثمة خسائر، وإنما الخاسر الأكبر هو تل أبيب، إذ تحولت المدينة التي تتمتع بأقوى “قبة حديدية” يتباهى بها الصهاينة إلى مدينة من الأشباح، بعد تحول ساكنيها للعيش بين المخابئ، ومحاولات الخروج منها في أكبر عملية نزوح جماعي معاكس إلى العواصم الأوروبية.
صعوبة الجهود الدبلوماسية بعد الضربة الأخيرة
شهدت الحرب، قبل بدئها وبعد نشوبها، تدخلات دبلوماسية عدة ومحاولات لنزع فتيلها، لكنها لم تكن كافية، وكأنه لم تتوفر الإرادة الدولية لوقفها، أو أن هناك رغبة لدى أطراف أخرى في إشعال النزاع والانتظار حتى نهايته، لاختبار جدية كل طرف وقدراته العسكرية.
فعلى مستوى الأمم المتحدة، دعا أمينها العام -مجرد دعوة- إلى ضبط النفس واحترام مواثيق الأمم المتحدة. وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي، كانت هناك محاولة لإعادة الأطراف إلى مائدة التفاوض فيما يخص المحادثات النووية التي توقفت.
بينما قامت دولتا قطر وعُمان بنقل رسائل تهدئة بين واشنطن وطهران، في محاولة لاحتواء الانزلاق في أتون الحرب. وما زال الموقف التركي، رغم تحذيرات الرئيس رجب طيب أردوغان من مآلات الحرب وضرورة الوحدة الإسلامية في وجه العدوان الصهيوني، لكن الأحداث كانت أسرع من تلك المحاولات.
فأسرعت تل أبيب بتوجيه ضربة استباقية. ومع تأخر الرد الإيراني إلى الليلة اللاحقة، ظن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن الأمور قد دانت له، وأنه قد حقق انتصارا غير مسبوق، وأنه لن تقوم لإيران قائمة بعد ضربته الأولى.
لكن الرد، الذي كان مزلزلا بالنسبة له، أحدث هزة عنيفة داخل المجتمع الإسرائيلي، ثم توالت الأحداث بحيث لم يعد في الإمكان السيطرة عليها.
ورغم المطالب الدولية لعقلاء العالم بوقف إطلاق النار، فإنها ظلت في طور المطالبات المجردة التي لم تحرك ساكنا، فضلا عن أن توقف حربا.
وبينما أطلقت أطراف مؤثرة في بداية الحرب، مثل الصين وروسيا وباكستان، تصريحات باحتمال التدخل، نلاحظ تراجع مواقف تلك الأطراف بعد اشتعالها.
فقد غلب مبدأ التحفظ على استعمال القوة وأسلحة الدمار الشامل، أو التدخل المباشر في الصراع، وتغيرت اللهجة بالمزيد من المطالبات بالتهدئة ووقف إطلاق النار، مما يُعَد تراجعا في المواقف.
وهو ما يضع طهران في مأزق المواجهة منفردة، وربما دعاها ذلك إلى التقدم بطلب عاجل لعقد جلسة طارئة باتهام مباشر لواشنطن وإسرائيل بانتهاك مواثيق الأمم المتحدة، مطالبة بقرار يدين الهجمات الأمريكية على منشآتها النووية.
وخلاصة القول في مسألة الدبلوماسية أنه كان هناك نوع من التراخي العالمي في التعامل مع الأزمة، حتى انفلتت الأمور من بين أيدي الجميع.
تبعات الضربة الأمريكية على أمن المنطقة
حتى فجر اليوم، وقبل توجيه الضربة الأمريكية للمواقع الإيرانية، كانت المواجهات بين الطرفين محدودة، رغم اتساع رقعتها داخل مدن الدولتين. لكن، بعد وقوع تلك الضربة، اتسعت الدائرة لتشمل مساحة جغرافية أخرى، قد تبدأ بمضيق هرمز على سبيل المثال، وكذلك مضيق باب المندب، مما يهدد ليس أمن المنطقة فقط، بل يؤثر بشكل مباشر في اقتصادها، بل وفي الاقتصاد العالمي بأسره.
ولن تتوقف إيران، كما يظن الرئيس الأمريكي، بمجرد توجيه ضربة يحسبها تأديبية، لتصرخ مطالبة بالعودة إلى المفاوضات والتنازل عن برنامجها النووي، بل يبدو أنه قد أطلق مارد العناد، بتصريحاته المستفزة عن عدم رغبته في تغيير النظام الإيراني، وكأن مقاليد الأمور كلها بيده.
لقد خرجت أمريكا بتلك الضربة من كونها “حارسا للسلام العالمي”، كما أرادت أن تقدم نفسها دائما، إلى شريك منحاز لطرف مدلل لديها. لم تعد مصدَّقة عند الشعب أو النظام الإيراني، وفقدت مصداقيتها تماما، لتصير عدوا مباشرا يجب محاربته، ومحاربة مصالحه في المنطقة.
وتتمثل تبعات الضربة الأمريكية أمنيا على المنطقة في كونها أطلقت ماردا غاضبا، سوف يستمر في خطوات تصعيدية، قبل أن يمكن احتواؤه مرة أخرى.
والساعات المقبلة سوف تشهد تغيرات عميقة وسريعة، فاللهم احفظ بلادنا العربية والعالم من شر قد اقترب.