الإجماع وميراث البنات مع العصبة الذكور

ناقشنا في مقالينا السابقين، موقف النصوص القرآنية والسنة النبوية، من ميراث البنات المنفردات، عند عدم وجود الأخ، ومشاركة العصبة الذكور لهن في الميراث، فجمهور الفقهاء في هذه المسألة، يقضي بأن البنات لا يرثن تركة المتوفى كلها، مهما كان عددهن، وأقصى ما يمكن أن يحزنه هو الثلثان فقط، وما يتبقى يذهب للعصبة الذكور للمتوفى، واستدلوا بما ناقشناه من نصوص قرآنية ونبوية، وهي نصوص لا تمنع أن هناك رأيا آخر يمكن الأخذ به، وكان مما استدلوا به كذلك على قولهم، أن المسألة فيها إجماع، ولا يجوز مخالفته، فهل فعلا في المسألة إجماع متيقن؟ وهو ما يفتح بابا للنقاش حول الإجماع الذي لا ينبغي مخالفته.
قضية الإجماع في المسألة:
إن الذي ذهب لهذا الرأي ورفض ما سواه، زعم أن القضية فيها إجماع، وقد أشارت الدكتورة زينب أبو الفضل في منشور لها على “الفيس بوك”، لمذهب الإمام الشافعي في قضية الإجماع، وأين يقع؟ وأن الشافعي يرى الإجماع في المعلوم من الدين بالضرورة مما لا خلاف عليه مطلقا فقط، حيث قال الشافعي: (قال: فهل من إجماع؟ قلت -أي الشافعي-: نعم، نحمد الله، كثير من جملة الفرائض التي لا يسع جهلها، وذلك الإجماع هو الذي لو قلت: أجمع الناس: لم تجد حولك أحدا يعرف شيئا يقول لك ليس هذا بإجماع، فهذه الطريق التي يصدق بها من ادعى الإجماع فيها، وفي أشياء من أصول العلم دون فروعه، ودون الأصول غيرها).
وقد علّق الشيخ أحمد شاكر على كلام الشافعي فقال: (هذا الذي صرّح به الشافعي: أن الإجماع إنما هو في المسائل المعلومة من الدين بالضرورة، قد صرح بنحوه في كتبه الأخرى… وهذا الرأي هو الرأي الصحيح في الإجماع، ولا إجماع غيره).
اقرأ أيضا
list of 4 itemsغزة تمنح اليسار قبلة الحياة في بريطانيا
هل تجد المعضلة الكردية طريقها إلى حل دائم؟
المفارقة السورية: حين يتحول النقد إلى أداة انتقام
وهو ما أكده أيضا أحد أهم من درسوا فقه الشافعي، الشيخ محمد أبو زهرة، فقد تناول موقف الشافعي من الإجماع، وانتهى لما انتهى إليه الشيخ شاكر، حيث قال أبو زهرة: (انتهى الشافعي في هذه المناظرة إلى أن الإجماع الذي لم يجد فيه مخالفا هو ما كان في جملة الفرائض، والأصول دون غيرها، وإنه ليقرر أن الإجماع لا يكون إلا في هذا… وبهذا نرى أن الشافعي -رضي الله عنه- ينتهي به الأمر في الإجماع إلى وضعه في دائرة ضيقة، وهي جمل الفرائض التي يعد علمها من العلم الضروري في هذه الشريعة الشريفة).
الإجماع في المعلوم من الدين بالضرورة فقط:
وما انتهى إليه الشافعي في أكثر من كتاب له، انتهى إليه علماء آخرون قدامى ومعاصرون، فمن القدامى: الإمام ابن حزم، حيث قال: (ثم ينقسم كل ذلك ثلاثة أقسام لا رابع لها إما شيء نقلته الأمة كلها عصرا بعد عصر كالإيمان والصلوات والصيام ونحو ذلك وهذا هو الإجماع ليس من هذا القسم شيء لم يجمع عليه وإما شيء نقل نقل تواتر كافة عن كافة من عندنا كذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ككثير من السنن.
وقد يجمع على بعض ذلك وقد يختلف فيه كصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- قاعدا بجميع الحاضرين من أصحابه وكدفعه خيبر إلى يهود بنصف ما يخرج منها من زرع أو تمر يخرجهم إذا شاء وغير ذلك كثير وإما شيء نقله الثقة عن الثقة كذلك مبلغا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمنه ما أجمع على القول به ومنه ما اختلف فيه فهذا معنى الإجماع الذي لا إجماع في الديانة غيره البتة ومن ادعى غير هذا فإنما يخبط فيما لا يدري ويقول ما لا علم له ويقول بما لا يفهم ويدين بما لا يعرف حقيقته وبالله -تعالى- التوفيق وبه نعوذ من التخليط في الدين بما لا يعقل).
وقد علّق الشيخ أحمد شاكر محقق الكتاب أيضا، بتعليقه نفسه على كلام الشافعي، فقال: (هذا الذي ذهب إليه المؤلف -ابن حزم- هو الحق في معنى الإجماع، والاحتجاج به، وهو بعينه المعلوم من الدين بالضرورة، وأما الإجماع الذي يدعيه الأصوليون فلا يتصور وقوعه، ولا يكون أبدا، وما هو إلا خيال).
وذهب إلى الرأي نفسه: ابن رشد، حيث يقول: (وقد يدلك على أن الإجماع لا يتقرر في النظريات بطريق يقيني كما يمكن أن يتقرر في العمليات، أنه ليس يمكن أن يتقرر الإجماع في مسألة ما في عصر ما إلا بأن يكون ذلك العصر عندنا محصورا، وأن يكون جميع العلماء الموجودين في ذلك العصر معلومين عندنا، اعني معلوما أشخاصهم ومبلغ عددهم، وأن ينقل إلينا في المسألة مذهب كل واحد منهم نقل تواتر، ويكون مع هذا كله قد صح عندنا أن العلماء الموجودين في ذلك الزمان متفقون على أنه ليس في الشرع ظاهر أو باطن، وأن العلم بكل مسألة يجب أن لا يكتم عن أحد، وأن الناس طريقهم واحد في علم الشريعة).
وقد ذهب إلى هذا الرأي أيضا: ابن الوزير، حيث قال: (وأما التأويلات التي يدعى الإجماع على وجوبها سواء كانت من إجماع الأمة أو العترة فاعلم أن الإجماعات نوعان: أحدهما: صحته بالضرورة من الدين بحيث يكفر مخالفه، فهذا إجماع صحيح، ولكنه مستغنى عنه بالعلم الضروري من الدين، وثانيها: ما نزل عن هذه المرتبة، ولا يكون إلا ظنا، لأنه ليس بعد التواتر إلا الظن، وليس بينهما في النقل مرتبة قطعية بالإجماع، وهذا هو حجة من يمنع العلم بحصول الإجماعات بعد انتشار الإسلام).
ومن المعاصرين الذين نحوا هذا المنحى، الشيخ شاكر فيما نقلناه عنه مقرا لما ذهب إليه الإمام الشافعي، وكذلك الشيخ محمود شلتوت، حيث قال: (ولا يخفى أن معنى ما ذكر الشافعي وابن حزم أن الإجماع لا يكون إلا فيما هو معلوم من الدين بالضرورة، وفيما كان طريق العلم بهو التواتر الذي يفيد قطعية الورود، وانتفاء الريب، فهذا هو الإجماع الذي تتم به الحجة، ولا يصح أن يخالف، ولا ريب أن العمل في مثل هذا لا يكون عملا بالإجماع من حيث هو إجماع، وإنما هو عمل بما تلقته الكافة عن الكافة، مما لا شبهة في ثبوته عن صاحب الشرع، وأن الإجماع فيه لم يكن إلا أثرا من الثبوت على هذا الوجه، فلا يكون مصدرا له، ولا أصلا في ثبوته).
انفرادات ابن عباس في المواريث:
وقد ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- انفرادات في مسائل المواريث، خالف بها ما ذهب إليه جل الصحابة في عهده، من ذلك: رأيه في نصيب البنتين، ورأيه في ميراث البنت مع الأخت، فقد كان ابن عباس يرى أن ليس للأخت شيء، فيقول: المال كله للبنت، وليس للأخت شيء.
وقد عقّب ابن حزم على انفرادات ابن عباس، قائلا: (هذا يريك أن ابن عباس لم ير ما فشا في الناس واشتهر فيهم حجة، وأنه لم ير القول به إذا لم يكن في القرآن، ولا في سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-).
ولابن عباس أيضا انفراد عن جل الصحابة في زمنه، في مسألة ميراث الأبوين مع الزوجين، فالآية الكريمة بينت ميراث الأم مع الزوجين، وميراث الأبوين مع الزوجة، عند عدم وجود الولد، لا إشكال فيها، فسيكون كالتالي: للزوجة الربع، وللأم الثلث، وللأب الباقي، وهنا نصيب الأب سيكون أكبر من نصيب الأم.
لكن الإشكال في ميراث الأبوين عند وجود الزوج، فإذا ماتت امرأة عن: زوج، وأبوين، ولا يوجد لها ولد، عندئذ يرث الزوج النصف، والأم ستأخذ الثلث بنص الآية الكريمة: {فلأمه الثلث}، والأب سيتبقى له أقل من نصيب الأم هنا، وقد ذهب الصحابة إلى أن الثلث الذي تحوزه الأم هنا هو ثلث ما تبقى بعد نصيب الزوج، أي: ثلث النصف الباقي، والأب يرث الباقي وهو ثلثا ما تبقى، ويكون نصيبه أكبر، وذلك حسبما فهموا أنه: ثلث الباقي، وليس ثلث الأصل.
ولكن ابن عباس هنا رأى رأيا آخر، انفرد به عن الصحابة فيما نقل عنه، إذ يرى أن الأم ستأخذ ثلث التركة، وليس ثلث ما تبقى، ويرث الأب الباقي، وهو أقل من نصيب الأم، واستدل ابن عباس بالقرآن الكريم على أصحاب الرأي الآخر وهم جمهرة الصحابة، فقال ابن عباس: (للزوج والزوجة ميراثهما، وللأم الثلث كاملا، وما بقي فللأب، وقال: لا أجد في كتاب الله تعالى ثلث ما بقي).
(وحكي أن ابن عباس لقي زيدا -رضي الله عنهما- فقال نشدتك الله هل تجد في كتاب الله ثلث ما بقي؟ فقال: لا، ولكنني قلت ذلك برأيي، فقال كتاب الله أحق أن يؤخذ به من رأيك)، وقد أوضح الإمام السرخسي موقف ابن عباس الفقهي فقال: (وحجته ظاهر الآية فإن الله تعالى قال: {فلأمه الثلث} النساء: 11، يعني ثلث التركة لأنه معطوف على قوله تعالى {فلهن ثلثا ما ترك} النساء: 11، وعلى قوله تعالى: {وإن كانت واحدة فلها النصف} النساء: 11، يعني نصف ما ترك. فكذلك قوله عز وجل: {فلأمه الثلث} النساء: 11، ثم لا يجوز أن ينتقص نصيب الأم بالزوج، لأن سبب وراثة الأم أقوى من سبب الزوج فإن سبب وراثتها لا يحتمل النقص والدفع فهو قائم عند الوراثة، وقد ترث جميع المال في بعض الأحوال بخلاف الزوج).
ونقل ابن القيم نقاشا وحجاجا دار بين ابن عباس وزيد -رضي الله عنهما-، وناقش حججهما، وقال ابن قدامة عن رأي ابن عباس: (والحجة معه لولا انعقاد الإجماع من الصحابة على مخالفته).
بل وجدنا في المسألة قولا ثالثا غير قول الجمهور، وقول ابن عباس، وهو قول لابن سيرين، نقله ابن المنذر حيث قال: (وفيه قول ثالث: قاله محمد بن سيرين قال في رجل ترك امرأته، وأبويه للمرأة الربع، وللأم ثلث جميع المال، وما بقي فللأب.
وقال في امرأة تركت زوجها، وأبويها، للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي، وما بقي فللأب، وقال: إذا فضل الأب الأم بشيء فإن للأم الثلث.
قال أبو بكر: وهذا قول لا نعلم أحدا قال به)، فرغم ما ادعي من إجماع الصحابة في المسألة، رأينا ابن عباس ينفرد برأي يخالفهم، ورأينا بعده ابن سيرين يخرج بقول ثالث، قال عنه ابن المنذر: لا نعلم أحدا قال به.
وكذلك انفراد ابن عباس عن الصحابة في قضية ميراث الإخوة مع الأم، وعقب ابن قدامة على موقف الصحابة وابن عباس، فقال: (ولنا قول عثمان هذا، فإنه يدل على أنه إجماع تم قبل مخالفة ابن عباس).
والنماذج في ذلك كثيرة، لو رحنا نستقصيها لاستغرقت مقالات، لكننا استشهدنا بنماذج فقط، حتى لا يحكم أحد بضلال الرأي الذي يرى عكس ما قال به الجمهور هنا، ما دام يرجحه بأدلة قوية، ولا يخالف إجماعا متيقنا.