ترامب من هو؟ رجل حرب أم داعية سلام؟!

الرئيس الأمريكي ترامب (غيتي)

قبل أن يعود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى واجهة المشهد السياسي، أعاد رفع الشعارات ذاتها التي روّج لها في حملاته الانتخابية: “أمريكا أولًا”، وإنهاء ما وصفه بـ”الحروب العبثية”، ووضع حد لاستنزاف الموارد الأمريكية، مؤكدا أنه سيطوي صفحة التدخلات الخارجية، ويعيد توجيه البوصلة نحو الداخل الأمريكي.

لكن ما جرى بعد عودته إلى السلطة كان نقيضا تاما لتلك الشعارات، إذ عاد الشرق الأوسط ليكون مجددا ساحة اختبار لنزعة ترامب نحو التصعيد، لا الاحتواء، والتلويح بالقوة بدلا من ضبط النفس، ولم يعد الحديث عن الانسحاب من النزاعات كافيا، بل ظهر توجه مغاير يقوم على إعادة فرض الهيمنة باستخدام أدوات الصدام المباشر.

في ذروة تصاعد التوتر بين إيران وإسرائيل، وبينما كانت المنطقة تتأرجح على حافة الاشتعال، اختار ترامب أن يُظهر ما اعتبره “حزما رئاسيا” من خلال توجيه ضربات عسكرية استباقية استهدفت ثلاث منشآت نووية إيرانية: فوردو، نطنر، واصفهان. العملية التي وصفها بأنها “نجاح عسكري باهر لم يشهد له العالم مثيلا منذ عقود”، أثارت ردود فعل دولية غاضبة، ووضعت العالم مجددا أمام سؤال قديم: إلى أي مدى يمكن لرئيس أمريكي أن يمضي منفردا نحو الحرب، دون مساءلة دستورية، أو توافق داخلي، أو حتى حساب دقيق للعواقب الاستراتيجية؟

لم تترك تصريحات ترامب عقب الهجوم مجالا للشك في نواياه، خصوصا مع تهديده المبطن حين قال: “يجب على إيران المتنمرة في الشرق الأوسط، أن تسعى الآن للسلام وإن لم تفعل فإن الضربات القادمة ستكون أعظم بكثير”. ما يعني أن التصعيد لم يكن نهاية حلقة طارئة، بل بداية لمرحلة جديدة مفتوحة على كل الاحتمالات.

ومع ذلك، فإن الضربة، وفقا لتقارير استخباراتية أمريكية وأوروبية، لم تكن استجابة لتهديد وشيك، بل جاءت نتيجة قرار سياسي اختاره ترامب عمدا، في محاولة لإعادة تقديم نفسه كقائد حازم، حتى ولو كان الثمن زعزعة استقرار منطقة بأكملها.

سياسة الانفراد في اتخاذ القرار

اللافت في هذه الضربات لم يكن طبيعتها العسكرية فقط، بل الطريقة التي اتُخذ بها القرار، إذ تجاهل ترامب المؤسسات الدستورية التي تقيّد صلاحيات الرئيس، ولم يُطلع “الكونغرس” أو يُشرك مستشاريه في نقاش موسّع، بل مضى منفردا في إطلاق عملية عسكرية بحجم استراتيجي بالغ الخطورة. غابت الشفافية، وتلاشت معايير التوازن، وكأنّ قرارات الحرب باتت تُتخذ بلمسة زرّ، دون محاسبة أو مراجعة.

أما ردود الفعل الدولية، فجاءت سريعة وحادة. الصين أدانت الهجوم واعتبرته “انتهاكا خطيرا للقانون الدولي”، بينما وصفت روسيا الضربات بأنها “انتهاك صارخ للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن”. حتى الاتحاد الأوروبي، رغم موقفه التقليدي المتحفظ على سلوك إيران، عبّر عن رفضه لاستخدام القوة، داعيا واشنطن إلى العودة لطاولة المفاوضات، والعمل على منع المزيد من التصعيد.

وفي الوقت الذي ظهر فيه ترامب منتشيا بما وصفة “نجاح عسكري باهر”، كانت الولايات المتحدة تخسر على جبهات أخرى: أخلاقيا بفعل تجاوز القانون الدولي، وسياسيا بفعل تراجع الثقة الدولية في نهجها الخارجي.

وهكذا، استعادت واشنطن صورتها النمطية في أذهان كثيرين: قوة عظمى تضرب أولًا، ثم تبحث عن تبرير لاحقا.

هدوء هشّ.. وثقة مهزوزة

صحيح أن وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل خفف من حدة التوتر، إلا أنه لم يُنهِ فصول الأزمة، بل ترك خلفه شرخا في النظام الدولي، وسؤالا مقلقا عن إمكانية عودة العالم إلى عصر يُدار فيه السلم والحرب بقرارات منفردة.

ما فعله ترامب لا يمكن اختزاله في ضربة عسكرية محدودة فقد تجاوز أثرها الميداني إلى ما هو أعمق وأكثر خطورة: زعزعة ثقة الحلفاء، وترسيخ منطق القوة كخيار أول، لا كملاذ أخير، في إدارة النزاعات.

والمفارقة أن الرئيس نفسه، الذي تعهد بعدم خوض حروب جديدة، هو من اتخذ قرارا كاد أن يشعل مواجهة إقليمية شاملة في واحدة من أكثر مناطق العالم اضطرابا.

المنطقة اليوم تعيش هدنة معلقة على خيط رفيع، لكن الذاكرة لم تُمحَ بعد، والقلق لن يتراجع بسهولة، والأسئلة العالقة لا تتعلق فقط بما حدث، بل عما قد يحدث لاحقا. من يضمن ألا تتكرر هذه القرارات الانفرادية؟ ومن يضع حدا لرئيس يرى في الحرب وسيلة لإعادة رسم صورته في الداخل، ولو على حساب الاستقرار الإقليمي؟

صحيح أن العالم نجا من انفجار شامل، لكن الثمن كان فادحا: تآكل في الثقة الدولية، تصدّع في التحالفات، وإدراك مرير بأن الاستقرار العالمي لا ينبغي أن يرهن بنزعة فردية، مهما كان صاحبها رئيسا لأقوى دولة في العالم.

إذا كان ثمة درس يمكن استخلاصه من هذه اللحظة، فهو أن الردع الحقيقي لا يكمن في استعراض القوة، وأن الحكمة لا تأتي عبر الخطب النارية أو العروض العسكرية، بل في القدرة على إدراك تبعات كل قرار، فالحرب حين تندلع، لا تعود خاضعة للخطابات، بل تفرض منطقها الخاص، وغالبا ما يدفع ثمنها الجميع.. بمن فيهم من أشعل شرارتها الأولى.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان