الصراع الأمريكي الصيني على الممرات البحرية العربية.. ماذا يعني؟!

استيقظت حكومات العالم على خبر إغلاق المجرى الملاحي لقناة السويس في مارس/آذار 2021 مدة ستة أيام بسبب جنوح سفينة إيفر جرين في مجرى القناة وتوقف الشريان الذي ينقل 12% من اقتصاد العالم، وبعد عام واحد، فزعت في فبراير/شباط 2022 على وقع الشلل الذي أصاب حركة الشحن البحري عبر مضيق البوسفور بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا واندلاع أزمات غذائية في كل دول العالم بلا استثناء، ثم صدمت في نهاية سنة 2023 بتهديد جماعة الحوثي حركة مرور السفن في مضيق باب المندب دعما لقطاع غزة ضد العدوان الإسرائيلي، وإجبار 70% من سفن الحاويات العابرة على التحول إلى رأس الرجاء الصالح؛ فتراجعت تدفقات النفط إلى أوروبا من 9 ملايين برميل يوميا إلى أربعة فقط، وخسرت قناة السويس 7 مليارات دولار من رسوم العبور.
وبلورت هذه الحوادث المحورية في تاريخ النقل البحري دلائل حديثة على الأهمية الحاسمة لممرات الشحن البحري وتأثير نقاط الاختناق البحرية في استقرار التجارة الدولية وبالتالي أمن العالم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. واستقرت آراء كثير من مراكز الفكر الاستراتيجي والجيوسياسي على أن الصراعات الدولية الكبرى القادمة ستكون على الموانئ والممرات البحرية الدولية التي تعبرها سفن الشحن البحري العملاقة حاملة على ظهرها 80% من إجمالي التجارة الدولية من حيث الحجم و70% من حيث القيمة النقدية، وفق تقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) 2019. ويمر جزء كبير من هذه التجارة البحرية عبر نقطة اختناق بحرية واحدة على الأقل.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالإمبراطور ترامب يستعرض عضلاته!
قراءة قانونية في الانتهاكات الإسرائيلية واختطاف السفينة مادلين
غرور القوة وأوهام النصر المطلق
ونقاط الاختناق، هي ممرات ضيقة بين المناطق البرية التي تفصل المحيطات عن البحار. وتتميز نقاط الاختناق بضيقها وكثافة حركة المرور فيها، وقد تقع في مناطق يحيطها عدم الاستقرار الجيوسياسي. وسلّط الصراع الذي دارت رحاه بين الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل من جهة وجماعة الحوثي من جهة أخرى في مضيق باب المندب والبحر الأحمر، الضوء على ذلك الصراع القادم.
الممرات البحرية الحيوية في المنطقة العربية
تشمل نقاط الاختناق البحرية الرئيسية ثلاث عشرة نقطة هي: مضيق هرمز، مضيق باب المندب، قناة السويس، مضيق جبل طارق، قناة بنما، القناة الإنجليزية، المضايق الدنماركية، مضيق البوسفور التركي، مضيق ملقا بين ماليزيا وإندونيسيا، مضيق لومبوك الإندونيسي، مضيق أومباي، وبحر الصين الجنوبي، وبحر الصين الشرقي في جنوب شرق آسيا. ومن الملاحظ أن النقاط الأربع الأول تقع في المنطقة العربية.
وفي مارس/آذار الماضي، وبينما كانت الولايات المتحدة تخوض حربا لتأمين حركة الملاحة في باب المندب والبحر الأحمر وقناة السويس، فتحت لجنة الشحن البحري الفدرالية الأمريكية تحقيقًا حول سبع نقاط اختناق في ممرات الشحن البحري الحيوية بالعالم، وركزت على اللوائح والسياسات والممارسات التي قد تهدد انسياب حركة الشحن، وكان من بينها مضيق جبل طارق وقناة السويس في المنطقة العربية، وعلق مستشار شركة الشحن البحري دينالينر الهولندية دارون وادي بأن هذا التحقيق يأتي في سياق حرب الولايات المتحدة ضد انتشار النفوذ الصيني في الممرات البحرية الحيوية.
ولطالما سيطر القلق على حكومات العالم بشأن التأثيرات المحتملة لانسداد نقطة اختناق واحدة في أمن الطاقة والأمن الغذائي العالمي، حيث يعتمد جزء كبير من العالم على صادرات النفط الخام من دول الخليج العربي التي تحملها ناقلات النفط التي يجب أن تعبر مضيق هرمز، للوصول إلى المحيط المفتوح، حيث تبحر ناقلات النفط إلى عموم شرق آسيا عبر مضيق ملقا، بينما تفضل تلك التي تبحر إلى أوروبا والأمريكتين استخدام مضيق باب المندب وقناة السويس.
تشير التقديرات إلى أن 55% من محاصيل الذرة والقمح والأرز وفول الصويا المتداولة في التجارة الدولية يتم شحنها عبر واحدة على الأقل من نقاط الاختناق هذه، وتمثل المحاصيل الثلاثة الأولى من هذه المحاصيل حوالي 60% من استهلاك الطاقة الغذائية العالمي، بينما يعد المحصول الرابع، فول الصويا، أحد أهم الأغذية البروتينية البشرية والأعلاف الحيوانية في العالم.
وكما أظهرت حرب أوكرانيا أن انقطاع الشحن عبر مضيق البوسفور هدد إمدادات الحبوب العالمية وأدى إلى ارتفاع أسعار الخبز في العالم، أظهر إغلاق جماعة الحوثي مضيق باب المندب، وبالتبعية قناة السويس، تهديدا لإمدادات الطاقة إلى أوروبا والولايات المتحدة حيث يعبره أكثر من 21 ألف سفينة سنويا، انخفضت بنسبة 70% خلال عام 2024.
أمريكا تقوض النفوذ الصيني البحري
تسيطر الشركات الصينية المملوكة للدولة والخاصة المملوكة لرجال أعمال صينيين على موانئ وأرصفة ومحطات شحن ومؤسسات مالية في أكثر من 90 ميناءً بالعالم، أو تشارك في تشغيلها. وجميعها تشرف على خطوط الملاحة البحرية الحيوية بالنسبة لاقتصادات أمريكا وجميع دول العالم من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ. وترى الإدارة الأمريكية أن هذا المستوى من السيطرة يُهدد المنافسة في السوق العالمي ويشكل أيضا أخطارا استراتيجية طويلة الأمد على الأمن الاقتصادي الأمريكي.
وفي بداية ولايته الثانية، صرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأن النفوذ الصيني، المدفوع بمبادرة الحزام والطريق الاستراتيجية، يثير مخاوف الولايات المتحدة كتهديد مباشر لأمنها الاقتصادي حيث تستثمر الصين، اقتصاديا وسياسيا، في موانئ قناة بنما.
وفي نصف الكرة الغربي الأمريكي، تشغل شركة سي كيه هاتشيسون الصينية المملوكة لقطب الأعمال الصيني العجوز لي كا شينج، البالغ من العمر 97 سنة، سبع محطات شحن حاويات، اثنتان في ميناءين على طرفي قناة بنما، وأربع في المكسيك، وواحدة في جزر البهاما. وتصنف هذه المحطات على أنها من بين أكثر الموانئ ازدحامًا في الأمريكتين، وهي ذات قيمة لا تُقدر بثمن للتجارة البحرية الأمريكية في المنطقة.
وعقب إعلان نتيجة تحقيق لجنة الشحن البحري الفدرالية الأمريكية في نقاط الاختناق البحري، هجم الرئيس ترامب على حكومة بنما وطالب بالسماح للسفن الأمريكية بالمرور المجاني عبر القناة كغطاء لتقويض النفوذ الصيني في القناة، وانتهى ذلك الهجوم بإعلان شركة إدارة الأصول الأمريكية العملاقة بلاك روك مفاجأة الاستحواذ على ميناءين في طرفي قناة بنما بالشراء من شركة سي كيه هاتشيسون الصينية، وإنهاء وجودها في القناة تماما وفي 43 ميناء موجودة في 23 دولة في قارة أوروبا والمنطقة العربية وآسيا، باستثناء البر الرئيسي للصين وهونغ كونغ، في مقابل 23 مليار دولار.
وهي الصفقة التي اعتبرتها الصين صفعة أمريكية، عبرت عنها المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية ماو نينغ، في مؤتمر صحفي بقولها إن الصين تعارض بشدة استخدام الإكراه الاقتصادي والهيمنة والتنمر لانتهاك الحقوق والمصالح المشروعة للدول الأخرى، ووصفت صحف صينية مالك هاتشسيون بأنه متآمر.
الصفقة وإن بدت بين شركات غير حكومية، فهي بكل المقاييس انقلاب في عالم الموانئ وتحدٍّ استراتيجي للصين قد لا تمرره مرار الكرام، ولكن المثير أن المنطقة العربية في غفلة عما يجري فيها، فالشركة الصينية تستحوذ وتشغل محطات شحن حاويات في 20 ميناء عربيا وقد آلت إلى الشركة الأمريكية.
وبالرغم من أن مضيق هرمز وباب المندب وقناة السويس لا تعتبر ممرا حيويا لسفن الولايات المتحدة، فقد استحوذت بلاك روك الأمريكية ضمن الصفقة على مشروعات هاتشيسون في عدة موانئ عربية على ضفتي المجرى المائي لقناة السويس ومحطة حاويات ميناء العين السخنة على مرمى حجر من مدخل قناة السويس الجنوبي ومحطتي الحاويات الرئيسة في ميناءي الإسكندرية والدخيلة، وهما من أكبر الموانئ البحرية في مصر على البحر المتوسط، كل ذلك لإخراج النفوذ الصيني من المنطقة، والاستثمار في الموقع الاستراتيجي والقيمة الاقتصادية لخطوط الملاحة في العالم.