جيل بلا جذور.. هل تغيّرت هوية الشباب في زمن الترحال والشتات؟

في عصر التواصل الرقمي أصبح الترحال نفسيا وليس مكانيا فقط (الأناضول)

في زمن يتسم بالحركة المستمرة والتغيرات المتسارعة، يعيش جيل جديد من الشباب حالة من التمزق الوجودي العميق، حيث لم يعد الوطن مجرد حدود جغرافية، بل تحوّل إلى مفهوم مشوش، متغير، وربما ضائع.

لقد أصبح الترحال، سواء بسبب الحروب أو الأزمات الاقتصادية أو البحث عن الفرص، سمة ملازمة للعصر الحديث. شباب يولدون في بلد، ويدرسون في آخر، ويعيشون في ثالث، ويُطلب منهم أن ينتموا، أن يعرفوا من هم؟ وإلى أين ينتمون؟ فهل يمكن حقًا أن ينمو الإنسان بلا جذور؟

الهجرة لم تعد مقتصرة على الفقر أو الحروب فحسب، بل تشمل اليوم فئات واسعة من الطلاب، الكفاءات، الباحثين عن فرص عمل أو ببساطة عن حياة أفضل، وهذا يجعل من الترحال ظاهرة تشمل الطبقات الوسطى والمرتفعة أيضًا، وتُرافقها مشكلات أكثر تعقيدًا من مجرد الحصول على إقامة أو وظيفة.

الترحال اليوم ليس مجرد انتقال جغرافي، بل تحوّل ثقافي ولغوي ونفسي. هناك من ينتقل ولا يعود أبدًا، وهناك من يعيش في مكان وجسده في آخر، وهناك من يعيش بـ“هوية هجينة”، نصفها من هنا ونصفها من هناك.

الهوية في زمن العولمة

ما هي الهوية أصلًا؟ الهوية ليست ثابتة كما نتصورها غالبًا، بل هي بناء معقد يتكون من اللغة، الدين، الثقافة، الذاكرة، الانتماء، التجربة الشخصية والجماعية. الهوية تتشكل في الطفولة، لكنها تتغير بفعل التجارب، المجتمع، وحتى الصدمات.

في زمن العولمة، الهوية أصبحت أكثر سيولة، والأفراد أكثر وعيًا بذواتهم المتعددة. الهوية لم تعد “إما/أو” (إما أنا عربي أو غربي)، بل أصبحت “وأيضًا” (أنا عربي وأوروبي، مسلم وإنساني، شرقي وغربي..).

عندما يولد الانقسام داخل الأسرة

تبدأ أزمة الهوية عند هؤلاء الشباب غالبًا من داخل الأسرة ذاتها. حين يولد الطفل من والد مغربي وأم لبنانية، أو من أب سوري وأم ألمانية، فإن هذا الخليط الذي قد يبدو للوهلة الأولى مصدر غنى ثقافي، يمكن أن يصبح لاحقًا مصدرًا للارتباك.

الطفل لا يختار لغته الأم، بل تفرضها عليه البيئة الأسرية، وفي حالات كثيرة، يتحدث الطفل بلغة الأم التي تقضي معه وقتًا أطول، لكنه يُطلب منه لاحقًا أن يكتب بلغة الأب، أو أن يتعلّم لغة بلد الإقامة، أو أن يحترم تقاليد لا يعرف عنها إلا القليل.

وهنا، يتشكّل أول شرخ داخل المنزل الواحد، يتلقّى الطفل رسائل متضاربة عمن يكون؟ وعن “الطرف الذي يجب أن يمثّله”. إذا ما أُضيف إلى ذلك توترات أسرية بين الوالدين، أو غياب أحدهما، يتعمّق الشرخ، ويشعر الطفل بأنه لا ينتمي بالكامل إلى أي طرف.

بل إن بعض الأطفال يُلامون لأنهم لا يتكلمون “لغة الأم جيدًا”، أو لأنهم “يشبهون الطرف الآخر أكثر”، فيتحول الانتماء إلى صراع داخلي بدلًا من أن يكون إطارا سليما للنمو.

وطن متعدد اللغات والثقافات

من التحديات الكبرى التي تواجه هذا الجيل مسألة التعدد اللغوي. في طفولته، يتنقّل الطفل من بلد إلى آخر. يتعلّم الألمانية في الروضة، ثم الإنجليزية في المرحلة الابتدائية، وربما الفرنسية في المتوسطة، بينما يتحدث في المنزل اللغة العربية بلهجة مغربية أو شامية، أو ربما لغتين مختلفتين بين الأب والأم.

هذا التعدد اللغوي، وإن كان ميزة في الظاهر، إلا أنه قد يُربك الإحساس بالهوية، فاللغة ليست مجرد وسيلة تواصل، بل هي بوابة إلى ثقافة كاملة، وهي مرآة لفكر الإنسان ونظرته إلى نفسه والعالم، وحين يشعر الطفل بأنه “ليس كفؤًا” بأي لغة، أو لا يتقن أي ثقافة بالكامل، يشعر بأنه غريب في الأمكنة كلها.

ليس هذا فقط، حين يسافر الطفل إلى بلد الأم أو الأب في العطل، يُعامل كـ“أجنبي”، لأن لهجته مختلفة، أو عاداته متأثرة بثقافات أخرى، أو لأنه ببساطة لا يبدو “أصليًا”. يصبح غريبًا في كل مكان، حتى في “وطنه الوراثي”.

هذه الحالة تخلق نوعًا من “الوطن الداخلي”، حيث يبدأ الطفل في بناء هوية شخصية مرنة، غير مرتبطة ببلد أو لغة، بل بهويته المركبة، لكن هذا الخيار ليس دائمًا سهلًا، وقد يستغرق سنوات من القلق والضياع.

الجيل الرقمي والمنفى الداخلي

في عصر التواصل الرقمي، لم يعد الترحال مكانيًا فقط، بل أصبح نفسيًا أيضًا، فالشباب الذين ولدوا بين ثقافات متعددة يجدون أنفسهم أيضًا في مواجهة عالم رقمي لا يعترف بالحدود. ينشأون على تطبيقات وتواصل مع أصدقاء من أنحاء متفرقة من العالم، ويتبنون ثقافات فرعية رقمية -من الموسيقى الكورية، إلى الفلسفات الغربية، إلى التحديات الفارغة في “تيك توك”-.

لكن المفارقة أن هذا الانفتاح، بدل أن يمنحهم وضوحًا أكبر لهويتهم، يجعلها أكثر تشظّيًا. الشاب الذي يعيش في دولة، ويتحدث العربية في البيت، ويكتب بالإنجليزية، ويستهلك محتوى أمريكيًا على الإنترنت، لا يجد نموذجًا واضحًا ليبني عليه شخصيته. إنه في حالة “منفى داخلي”، يعيش في كل مكان ولا ينتمي حقًا إلى أيّ من تلك الأمكنة.

المنصات الرقمية، التي يفترض بها أن تكون وسيلة تواصل، تتحوّل إلى معيار قاسٍ للاندماج أو الإقصاء. يُطلب من الشاب أن “يتماشى” مع القيم الرقمية السائدة، التي كثيرًا ما تصطدم بقيم البيت والأسرة والثقافة الأصلية، وهذا التناقض يخلق ضغطًا نفسيًا هائلًا: هل يتخلى عن جزء من نفسه ليلائم الآخر؟ أم يتمسك بما يعرف ويخاطر بالعزلة؟

يجد بعضهم في الهويات الرقمية ملاذًا موقتًا، لكن دون جذور حقيقية، والنتيجة مزيد من التشتت، وفقدان واضح للبوصلة الداخلية.

آثار الترحال على النفس والتوازن النفسي

لا يقتصر أثر الترحال المستمر على الثقافة واللغة فقط، بل يمتد إلى الصحة النفسية. الدراسات النفسية تشير إلى أن الأطفال الذين يتنقلون باستمرار بين البيئات المختلفة، دون استقرار، يواجهون صعوبات في بناء علاقات دائمة، ويعانون من مشكلات في الهوية، والتوتر المزمن، وحتى أعراض الاكتئاب والقلق.

يعيش هؤلاء الشباب نوعًا من الفقد المتكرر: يفقدون أصدقاء، مدارس، أحياء، وفضاءات شكلت جزءًا من ذاكرتهم. كلما استقروا في مكان جاء موعد الرحيل، ومع الوقت يتعلمون ألا يتعلّقوا بشيء، وألا يثقوا بسهولة، لأن كل شيء مؤقت.

أمام هذا التشظي الهويّاتي، لا بد من التساؤل: هل من سبيل لزرع جذور جديدة؟ هل يمكن للشباب الذين ولدوا في الشتات، وعاشوا في تقاطع الثقافات، أن يجدوا لأنفسهم هوية متوازنة، واضحة ومستقرة؟ الإجابة ليست سهلة، لكنها ممكنة.

إعادة تعريف الهوية

الهوية لم تعد، كما في السابق، مرتبطة بمكان الميلاد أو لغة الأم فقط. يمكن لهؤلاء الشباب أن يختاروا عناصر من كل ثقافة مروا بها ليصنعوا هوية فريدة لهم. من حق الشاب أن يقول: “أنا خليط من ثقافات متعددة، وأفتخر بذلك”، لكن لتحقيق ذلك، يحتاج إلى فضاء تربوي ومجتمعي يعترف بهذا التعدد، ويشجّعه لا أن يُخجله.

وتلعب الأسرة دورًا محوريًا في ترسيخ الجذور، ليس بفرض هوية واحدة، بل بإعطاء الأبناء أدوات لفهم ماضيهم، لغتهم الأم، تقاليدهم، ومكانهم في السلسلة العائلية. على الآباء والأمهات، خاصة حين يأتون من بلدين مختلفين، أن يحترموا هوياتهم، وأن يشرحوا لأبنائهم معنى هذا التنوع.

ومن المهم أن تكون المدارس بيئة شاملة، تتيح للطلاب التعبير عن خلفياتهم الثقافية دون خجل، وتُشجع على الاحتفال بالتعدد بدل قمعه، كما يجب على المجتمعات المضيفة أن تفسح المجال أمام الوافدين لبناء ارتباطات جديدة، والمساهمة في الحياة العامة لا أن يشعروا دومًا أنهم غرباء.

والشاب الذي يدرك أن هويته ليست مشكلة، بل مصدر ثراء، يصبح أقوى. هذا يتطلب جهدًا داخليًا، تأملًا، وربما مساعدة نفسية لتجاوز مشاعر الاغتراب والانقسام، فالتوازن النفسي لا يُبنى فقط على المكان الذي نعيش فيه، بل على المصالحة مع ماضينا ومساراتنا.

الخاتمة: نحو هوية هجينة وجديدة

جيل اليوم يعيش تجربة مختلفة تمامًا عن الأجيال السابقة. لم يعد الانتماء إلى “وطن واحد” هو القاعدة، ولم تعد الهويات محددة بدقة كما كانت. في هذا الزمن الجديد، الهوية أصبحت هُوية هجينة، في حين تكون الجذور متنقلة.

التحدي الحقيقي ليس في إيجاد هوية ثابتة، بل في بناء هوية مرنة، متصالحة، ومُفعمة بالمعنى. أن تعرف من أين أتيت؟ ولو من بلدان متعددة، وأن تُدرك ما تحمله معك من ثقافات ولغات وتجارب. ذاك بالفعل هو أول الطريق.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان