خطاب الرئيس أفورقي هل هو بداية حقبة جديدة؟

الرئيس الإريتري أسياس أفورقي (غيتي)

شهدت وسائل التواصل الاجتماعي في منطقة القرن الإفريقي، في الأيام القليلة الماضية، موجة من التعليقات والردود عقب الكلمة التي ألقاها الرئيس الإريتري، أسياس أفورقي بتاريخ 24 مايو/أيّار 2025، بمناسبة ذكرى الاستقلال الرابعة والثلاثين للبلاد. وقد ركز الرئيس أفورقي في كلمته على تحليل التطورات السياسية الجارية في العالم، دون أن يتطرق أو يتناول الأوضاع الداخلية الشائكة بالتحليل. وتلك في الواقع طبيعة خطابات الرئيس أسياس أفورقي، حيث تتسق مع ما تسرب من وثائق سرية تعود لعام 1991، تضمنت تقييمًا لشخصية الرئيس أفورقي، كتبه بول هينز، ضابط المخابرات الأمريكي ومساعد مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس جيمي كارتر.

لخص بول هينز في تلك الوثائق، مجمل مجريات المحادثة التي جمعته مع أفورقي بالكلمات التالية: “طَوال فترة المحادثة بدا أفورقي وكأنه شخص يُعاني من الإحباط والارتباك الأيديولوجي. وبالتالي، أظهر القليل من الاهتمام الموضوعي بالمشاكل العملية التي يتطلبها العيش في أي مجتمع مفتوح أو نظام سياسي متقدم. كذلك لم يكن من السهل التحدث معه بلغة تأملية حول القضايا السياسية والاقتصادية. إلا أنه كان سعيدًا وسريع التجاوب عندما يتعلق الأمر بالتوضيح والدفاع عن الإجراءات والقرارات السابقة”.

التعبيرات الجاهزة

إن قراءة وثائق بول هينز -ووثائق أخرى شبيهة بالطبع- شجعتني على رصد وتتبع محتوى خطابات الرئيس أفورقي، فوجدت شواهد كثيرة، تثبت صحة تحليل بول هينز لشخصية أفورقي وتظهر السمة الغالبة على كل خطاباته؛ حيث يستهلها بتحليل قضايا العالم، منتقدًا السياسات الإمبريالية العالمية والأدوار الكبيرة التي تضطلع بها في حياكة المؤامرات ضد حكومته بمساعدة “طغمة التيغراي” الحاكمة في إثيوبيا. ولم يشذ خطابه الأخير عن تكرار ذات التعبيرات الجاهزة التي ظل يستعملها في المناسبات الوطنية، ولكنه هذه المرة اضطر إلى تغيير اسم الجماعة الحاكمة في إثيوبيا، مع الإبقاء على زيادة جرعة تضخيم التهديد الذي يمثله خصومه الجدد.

إن ما تضمنه خطابه الأخير من فقرات ذات صلة بإثيوبيا قد تسهم في إشعال معارك سياسية وأمنية جديدة بالمنطقة، فهذه هي المرة الأولى التي يُفصح فيها الرئيس أسياس أفورقي بصورة مباشرة عن توتر علاقته مع حكومة الرئيس آبي أحمد، وهو توتر ظل مكبوتا طوال الفترة الماضية.

في هذه المقالة نحاول التعرّف على الجديد في الخطاب الأخير للرئيس الإريتري أسياس أفورقي مقارنة بخطاباته السابقة، ونحلل أسباب لهجته الحادة اتجاه إثيوبيا من خلال الإجابة عن تساؤلين اثنين: ما مغزى انتقاده للحكومة الإثيوبية في هذا التوقيت؟ وفي أي سياق سياسي داخلي وخارجي يأتي هذا الانتقاد؟

الجديد في الخطاب

عند تناول أوضاع منطقة القرن الإفريقي وبصورة خاصة علاقة بلاده بإثيوبيا، اعترف أفورقي في خطابه الأخير بأن أجواء “الابتهاج والتفاؤل التي سادت قبل سنوات في إثيوبيا، لما كان يُظنّ أنه عملية “إصلاح”، لا يزال صداها حاضرا في الذاكرة”. والإشارة هنا -بالطبع- إلى الفترة التي وصل فيها آبي أحمد إلى رئاسة الوزراء (إبريل/نيسان 2018)، والتي أفضت إلى توقيع البلدين اتفاقية سلام في يوليو/تموز 2018، بعد سنوات من عداء استمر عشرين عاما على خلفية حرب حدودية جرت بين البلدين. وقد كُللت هذه الأجواء، بحصول آبي أحمد على جائزة نوبل للسلام في أكتوبر/تشرين الأول 2019. وقالت الهيئة المانحة لجوائز نوبل إنها منحته الجائزة “تقديرًا لجهوده من أجل التوصل إلى السلام وخدمة التعاون الدولي، -وخصوصا- مبادرته الحاسمة التي هدفت إلى تسوية النزاع الحدودي مع إريتريا”.

علاوة على ما سبق، ندّد الرئيس أفورقي في خطابه بدور القوى الخارجية، متهما إياها بتقويض دعائم السلم في المنطقة، حيث قال: “إن القوى الخارجية التي أفزعتها فرص “الإصلاح” المبشّرة، كانت تقف بالمرصاد”، من أجل إفشال تجربة تقارب بلاده مع إثيوبيا. الجدير بالذكر هنا، أن حكومتي البلدين لم تكتفيا بتحسين العلاقات فحسب، بل انخرطتا في مشروع ردع استهدف تقويض جبهة التيغراي. وقد تشكل على ضوء ذلك، تحالفٌ يضم الحكومة الفدرالية في إثيوبيا بزعامة آبي أحمد، والحكومة الإريترية بزعامة أسياس أفورقي ونخب الأمهرة ممثلةً في ميليشيا “الفانو”. وقد شاركت الأطراف الثلاثة في الحرب التي شنتها الحكومة الإثيوبية على جبهة التيغراي في نوفمبر/تشرين الثاني 2020.

اتفاقية بريتوريا للسلام

وتغير خريطة التحالفات

استمر النزاع في إقليم التيغراي قرابة عامين وخلّف آلاف القتلى، كما ترافق مع حصول انتهاكات وفظائع جسيمة بحق المدنيين، قيل إنها ربما ترقى إلى مستوى جرائم حرب. وقد خلص تحقيق أجراه مكتب مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، إلى أن “جميع أطراف النزاع في إقليم التيغراي ارتكبت، بدرجات متفاوتة، انتهاكات ضد حقوق الإنسان، قد يرقى بعضها إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”. وقد تلقت حكومة الرئيس أفورقي -إثر ذلك- انتقادات دولية واسعة بسبب مشاركتها في الحرب، واتُّهمت بارتكاب انتهاكات وأعمال تطهير عرقي في إقليم التيغراي. ونتيجة لذلك، فَرضت الولايات المتحدة الأمريكية، عقوبات على الجيش والحزب الحاكم في إريتريا. المفارقة في الأمر، أن الحكومة الإثيوبية، وبالرغم من تحالفها الوثيق مع قوات الرئيس أفورقي وميليشيات “الفانو” التابعة لإقليم الأمهرة، فإنها انفردت بتوقيع “اتفاقية بريتوريا للسلام” في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، مع جبهة تحرير التيغراي، دون إشراك الأمهرة أو الحكومة الإريترية. وقد أفضى ذلك إلى تغيرات كبيرة في خريطة التحالفات، تحوّلت بموجبها قوات “الفانو” الأمهرية من قوات صديقة تُحارب إلى جانب الحكومة في إقليم التيغراي، إلى قوات مناوئة، تخوض قتالا ضاريا ضد القوات الحكومية. في الجانب الآخر، شهدت العلاقات بين إثيوبيا وإريتريا تراجعا واضحا، بلغ درجة عدم التوافق في كثير من الملفات.

إعلان الخصومة

على الرغم من توتر العلاقات الدبلوماسية بين إريتريا وإثيوبيا، ودخولها منذ عامين في حالة من الجمود والتردي، فإن الاختلافات بينهما بقيت قيد الكتمان. والجدير بالملاحظة هنا، أن الرئيس أفورقي في خطابه الأخير عبّر لأول مرة عن نوع العلاقة التي ربطته بحكومة آبي أحمد، عندما قال واصفًا مواقف بلاده: “بالنسبة لحكومة وشعب إريتريا، فرغم التغيير المفاجئ الذي طرأ في مجرى الأحداث، فإنهما لا يتأسفان أبدا، لا على دعمهم المطلق (لآبي أحمد) ولا على الآمال العريضة التي علقوها على عملية التصحيح أو الإصلاح التي ظنّوا أنه يقوم بها”.

من الواضح أن هذه الفقرة من الخطاب، تؤكد صحة قول بول هينر -في التقييم المذكور سابقا- إن أفورقي يتجاوب سريعًا مع النقاش “عندما يتعلق الأمر بالتوضيح والدفاع عن الإجراءات والقرارات السابقة.” لكن اللافت أكثر هذه المرة هو أنه يذهب إلى أبعد من مجرد الدفاع عن المواقف السابقة ليعلن بوضوح موقفه من إصلاحات آبي أحمد بالقول: “إن الفرص الإيجابية الواعدة التي كانت تلوح في الأفق قد تلاشت، والشعب الإثيوبي قد حسم أمره وبات يتأهب لتقوية معارضته.” وهذا الإقرار الأخير المتعلق بتوجه الشعب الإثيوبي إلى تقوية المعارضة، يثبت التهم التي ظلت تحوم حول الرئيس أفورقي بأنه يقف وراء تمرد ميليشيات “الفانو” الأمهرية، وبالتالي يتحمل بصورة أو أخرى، مسؤولية انفلات الأوضاع الأمنية في إقليم الأمهرة.

والمثير أكثر، أن الرئيس أفورقي لم يكتف بعدم التعويل على إصلاحات آبي أحمد فحسب، بل ذهب إلى اتهام جماعته بإشعال الحروب، حيث قال: “إن الحروب التي أشعلتها بحق الشعب الإثيوبي، خلال السنوات القليلة الماضية، تحت مسمّى الازدهار (الشعار الجديد الذي باتت القوى الخارجية تتستر وراءه)، لا تعبّر [عن عدائهم للتغيير فحسب] بل يجسد يأسهم الشديد”.

أما المفاجأة الأهم، التي بدت جديدة كليًّا لكاتب هذه السطور، فقد تمثّلت في خلو خطاب الرئيس أفورقي من أي نقد “لجبهة التيغراي”، التي ظلت محور أحاديثه على مدار العقود الثلاثة الماضية. لا يتعلق الأمر هنا بترفع الرئيس عن نقد خصومه بقدر ما يؤكد الأخبار المتداولة بخصوص تواصل السلطات الإريترية مع الجناح الذي يقوده دبرتسيون جبر ميكائيل في جبهة التيغراي. وليس من المصادفة أيضا، أن يعمد الرئيس أفورقي إلى اختلاق خصوم جدد، يحلون مكان “جبهة التيغراي”، حيث شنّ هجوما لاذعا على السلطة القائمة في إثيوبيا تحت مسمّى “الازدهار”. ولا ينسى الرئيس أفورقي التنبيه إلى التهديد الذي تمثله جماعة الازدهار، وأنها تتجمل “بشعارات وذرائع كثيرة، لكن أجندتها المتهورة لا تخفى على أحد”. ويضيف: “ومن بين هذه الذرائع: قضية المياه، وقضية النيل والبحر الأحمر، ومسألة الوصول إلى البحر، وأيديولوجيا قومية الأورومو، وإثارة العداء الكوشي السامي”.

أختم بالإشارة إلى أن الحكومة الإثيوبية لم تصدر حتى الآن أي تعليق على خطاب الرئيس أفورقي. مع ذلك، فاتهام الرئيس أفورقي، السلطة القائمة في إثيوبيا بكونها تحمل أيديولوجيا الأورومو، قد وجد تنديدًا من المنتسبين إلى عرقية الأورومو، بما في ذلك المعارضين لسلطة آبي أحمد، مثل جبهة تحرير الأورومو. في كل الأحوال، لا يمكن النظر إلى خطاب الرئيس أفورقي، إلا باعتباره محاولة لإعادة رسم المشهد بكل ما يتضمن ذلك من تعبئة وتحشيد يساعدان في ترسيم خريطة تحالفات لحقبة جديدة.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان