تركيا وآسيا الوسطى.. والبحث عن الهوية المفقودة

التطورات المتلاحقة دوليا، وزيادة حدة التوترات بين أقطاب العالم الغربي التي تنذر بتسارع الخطا في اتجاه حرب موسعة، دفعت دول آسيا الوسطى إلى مراجعة تحالفاتها الإقليمية بما يتماشى مع مصالحها، وهي الحالة التي أصبحت سمة المرحلة الراهنة، استباقا لما يمكن أن يسفر عنه المستقبل القريب من تداعيات خطيرة سيكون لها دون شك تأثير مباشر على كل دول العالم في ظل الاضطراب الذي نعيشه حاليا.
لا يختلف الوضع كثيرا بالنسبة لتركيا التي تعد نموذجا لهذه الرؤية، حيث بدأت منذ مدة إعادة النظر في كل تحالفاتها وعداءاتها السابقة، ساعية إلى إحداث تغييرات جذرية في توجهاتها واستراتيجيتها التي حكمت دوما دبلوماسيتها على مدى عقود طويلة.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالضربة النووية بين استعراض ترامب والتهوين الإيراني
فخ التدخل الأمريكي.. يطفئ الحرب أم يشعل العالم؟
أبعاد الضربة الأمريكية لإيران
يمكن رصد هذا التغيير بوضوح فيما تقوم به من إعادة صياغة تشكيل علاقاتها بمحيطها الجغرافي، ورغبتها في ترسيخ مبدأ حسن الجوار، وإنهاء القضايا الخلافية مهما بلغ حجمها وقِدَمها، تدفعها رغبة محمومة في توسيع نطاق تعاملاتها الاقتصادية والتجارية لكون ركيزة أساسية لضمان استمرار هذه العلاقات وترسيخها.
وكذلك إصرارها على دفع عجلة التغيير عبر استحداث كيانات، ومنظمات، ومؤسسات إقليمية جديدة، تعتمد في تأسيسها على معتقدات دينية، وموروثات ثقافية وتاريخية، وانتماءات عرقية ولغوية، وعادات وتقاليد متطابقة.
لعل أبرز مثال على هذه الاستراتيجية، ذلك التعاون الآخذ في التنامي بين أنقرة ودول آسيا الوسطى الناطقة باللغة التركية، التي تمتد أصول شعوبها إلى العرق التركي والقومية التركية، إذ من الملاحظ زيادة النشاط الدبلوماسي والسياسي التركي تجاه هذه المنطقة تحديدا، والزيارات الرسمية التي يقوم بها مسؤولوها على مختلف مناصبهم وحقائبهم الوزارية، سواء كانت اقتصادية وتجارية، أو عسكرية وأمنية أو استخبارية.
حملات إعلامية موجهة
لحشد الدعم الشعبي للتحرك الرسمي
زيارات رسمية دائما ما تتوج بزيارة للرئيس أردوغان، الذي قام مؤخرا ضمن جولاته الخارجية بزيارة لكل من جمهورية شمال قبرص التركية، وأذربيجان على التوالي، لمشاركتهما في احتفالات وطنية خاصة بهما، تحرك على أعلى مستوى تواكبه حملة إعلامية ضخمة يقودها الإعلام الرسمي للدولة، ويسانده فيها بقوة الإعلام الخاص الموالي للحزب الحاكم، بهدف حشد الدعم الشعبي لهذا التحرك الرسمي، وتأجيج الحس القومي اتجاه أبناء جلدتهم الذين يتقاسمون معهم الكثير من سمات البنية الجسدية والشخصية، والعادات والتقاليد الاجتماعية، وتجمعهم حقب تاريخية متباينة، ويتشاركون معهم الجغرافيا، والموروثات الثقافية، وتضمهم وحدة اللغة.
وهي محاولة جريئة تستهدف تعديل بوصلة المواطنين الأتراك، وتحويل مسارها من جهة الغرب إلى جهة أصولهم الحقيقية، وروافدهم الأصلية التي عرفتهم بها الإنسانية منذ فجر التاريخ، وحثهم على إعادة لُحمة التواصل، والعودة إلى أحضان نظرائهم من الأتراك الذين يعيشون في محيطهم، ويرحبون بوجودهم، عوضا عن الاستمرار في مطاردة حلم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ومحاولة الانتماء إلى جسد يرفض الاعتراف بهم، أو اعتبارهم أحد أعضائه.
بطبيعة الحال هذه الخطوة الكبيرة التي تقوم بها تركيا باتجاه دول العالم التركي، ومحاولة إحداث تقارب بين شعبها وبين أبناء جلدتهم، وإعادة تشكيل خريطة هذه المنطقة من العالم، ليس هدفها الوحيد إعادة عجلة الزمن إلى الوراء، واستعادة حقبة تاريخية كان للأتراك فيها الريادة ضمن القوميات الأكثر تأثيرا في شعوب المنطقة، بدافع الحنين إلى الماضي التليد، والرغبة في استحضاره عبر تشكيل كيان يحمل اسم “منظمة الدول التركية”.
فالأهداف والمصالح التي يمكن تحقيقها في المديين القصير والمتوسط، والمكاسب المتوقع جنيها في المنظور الطويل، على جميع الصعد السياسية، والاقتصادية، والتجارية، والعسكرية، والأمنية والاستخبارية، وفي مجال الطاقة والتكنولوجيا، تقف وراء استدعاء التاريخ، والسعي لإعادة الروابط بين الدول الناطقة بالتركية، في استغلال واضح لهذه المشاعر الفياضة، والصحوة القومية الآخذة في التنامي.
إحياء مشروع تركيا الكبرى
ودوره في تعزيز نفوذ أنقرة الجيوسياسي
في إطار الأهداف الاستراتيجية الطويلة المدى لحزب العدالة والتنمية الحاكم يتصدر مشروع إقامة كيان تركي يجمع كل دول آسيا الوسطى الناطقة باللغة التركية، بهدف إعادة تشكيل تركيا الكبرى، وهي الخطوة التي من شأنها تعزيز نفوذ أنقرة الجيوسياسي، وترسيخ أقدامها بوصفها دولة فاعلة في النظام العالمي الجديد.
قيادة أنقرة لهذه المنطقة من العالم، بمساحة جغرافية تبلغ حوالي 5 ملايين كيلومتر مربع، وكتلة سكانية تبلغ أكثر من 300 مليون نسمة، ودخل قومي يصل إلى حوالي 2 تريليون دولار، تمنحها أيضا إمكانات ضخمة، تتيح لها تحقيق نهضة متكاملة اقتصادية وتجارية، وإنعاش اجتماعي لجميع شعوبها، يفتح أمامها المجال لتسويق منتجاتها في الدول الثماني، ذات الكثافة السكانية المرتفعة.
ولهذا الهدف سعت تركيا إلى رفع حجم استثماراتها في المنطقة، التي تجاوزت خلال السنوات الماضية 90 مليار دولار، تم توجيه معظمها لتحسين البنية التحتية، وإنشاء الطرق السريعة باعتبارهما أساس أية تنمية، حيث تم بناء ميناء دولي في مدينة عشق آباد، والاستحواذ على مطار ألما آتا أحد أكبر مدن كازاخستان.
وتم كذلك تنفيذ مشروع النقل العابر لبحر قزوين بالاشتراك مع الصين، وهو ما سيؤدي إلى ربط دول العالم التركي مجتمعة ببعضها ببعض، ويتيح لتركيا مدخلا مباشرا إلى آسيا الوسطى، ويجعل عملية تصدير السلع المنتجة محليا، واستيراد المواد الخام اللازمة للتصنيع أكثر سهولة وأقل تكلفة.
نقل الطاقة من آسيا الوسطى إلى الأسواق الغربية دون الحاجة لاستخدام أراضي كل من روسيا وإيران يمثل حلما لأنقرة، وهدفا لدول أوروبا، وهو ما تحقق نسبيا عبر خط نقل نفط أذربيجان (باكو – تبليسي- جيهان) الذي ينتهي عند ميناء جيهان التركي، وكذلك خط نقل الغاز الطبيعي من بحر قزوين بأذربيجان أيضا (باكو – تبليسي- أرزوروم) الذي ينتهي عند مدينة أرزوروم.
وتسعى تركيا حاليا للعمل بجدية لنقل غاز تركمانستان عبر أذربيجان وجورجيا إلى أراضيها ومنها إلى أسواق أوروبا تلافيا لأزمة الصراع الروسي الأوكراني وتأثيرها في إمدادات الغاز لأوروبا، لتصبح بذلك مركزا للطاقة في أورآسيا.
جيش توران العظيم
يتصدر التعاون الأمني والعسكري أولويات الرؤية التركية بشأن التعاون مع دول العالم التركي، إذ يعتبر إحدى آليات مواجهة التحولات الدولية الرامية إلى إعادة رسم خريطة العالم، وهيكلة مؤسساته وتنظيماته، في ضوء احتمال ظهور قوى عالمية جديدة متعددة الأقطاب، ولهذا السبب تحديدا سعت أنقرة إلى إجراء العديد من المناورات العسكرية المشتركة، وإبرام العديد من الصفقات لبيع مختلف أنواع الأسلحة التركية الصنع، كالمسيّرات والمدرعات وغيرهما.
إلى جانب طرح فكرة إنشاء تكتل عسكري موحد يحمل اسم “جيش توران العظيم” نسبة إلى فكرة الطورانية التي ظهرت في أواخر عهد الدولة العثمانية، وتقوم على فلسفة عمل تكتل من الشعوب ذات العرق التركي في كل من آسيا الوسطى والقوقاز، التي تحمل نفس الصفات الجسمانية، وتوحدها اللغة، ويجمعها الدين والعادات والتقاليد، بديلًا عن الدولة المتعددة الأعراق والقوميات لاستعادة الأمجاد والتخلص من حالة الوهن التي كانت تعانيها الإمبراطورية العثمانية.
وهو التكتل الذي تعول عليه تركيا إذا اضطرت إلى الدخول في مواجهة عسكرية لترسيخ قياداتها الإقليمية، والحفاظ على نفوذها المتنامي في هذه المنطقة، الذي يمكن أن يواجه رفضا من القوى الإقليمية والدولية التي لها مصالح استراتيجية واقتصادية هناك.
شروط تحول منظمة العالم التركي إلى قوة إقليمية صاعدة
نجاح تركيا في تخطي العقبات التي قد تعيق توسيع نطاق التعاون بين دول منظمة العالم التركي، وتبديد مخاوف كل من روسيا وإيران بشأن ما يمكن أن يمثله هذا التعاون من تهديد لنفوذهما في هذه المنطقة من العالم، وطمأنة دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية بأن قيادتها لدول العالم التركي تهدف إلى زيادة عدد المؤسسات الدولية الساعية لتحقيق الأمن والسلام العالمي، والمساهمة بجدية في تنمية المجتمعات الآسيوية، ورفع مستوى رفاهية شعوبها، من شأنه إتاحة الفرصة أمام منظمة التعاون التركي لتصبح قوة صاعدة في قلب الجغرافيا السياسية العالمية بامتياز.