ما العلاقة بين حرية الإعلام والقيادة الاستراتيجية؟

نظرية جديدة لبناء المستقبل

مانديلا صاحب استراتيجية في تحرير الإعلام

خلال عملي في الجامعات حاولت أن أطوّر نظريات جديدة تُحرر العقل الإعلامي العربي من الاستعمار الثقافي، وأن أطرح أسئلة جديدة تدفع طلابي لمواجهة التحديات، وقراءة الواقع لاكتشاف الفرص، وإنتاج معرفة جديدة وأصيلة تتناسب مع طموحات أمة تريد تحقيق الحرية والاستقلال الشامل والتنمية واستثمار الثروات المادية والبشرية.

في أول محاضرة ألقيتها في كلية الإعلام بعد حصولي على الدكتوراه، قلت لطلابي: إنني أعمل لتكونوا قادة لمجتمع المعرفة، وأن توفروا الحقائق للجمهور، فالمعرفة قوة، وكلما قمتم بوظيفتكم في الوفاء بحق جمهوركم في المعرفة، تزايدت قوتكم ومكانتكم الاجتماعية، وأدرك الناس أن الدفاع عن حريتكم كإعلاميين هو دفاع عن حرية الوطن والمواطن، وبناء المستقبل بالمعرفة.. وطرحت يومها سؤالا طلبت من كل طالب أن يُطلق لخياله العنان في البحث عن إجابة جديدة له: ما العلاقة بين القيادة الاستراتيجية وحرية الإعلام؟!

الإجابة ما زالت مفتوحة!

أثار السؤال خيال الطلاب الذين قدموا أفكارا جريئة وجديدة، توضح أن العقل العربي يمكن أن يُبدع ويبتكر ويبني المستقبل، وأن طلابي يمتلكون القدرات والمهارات التي تمكنهم من بناء نظام إعلامي حر يقود كفاح الأمة، وينتج الأفكار الجديدة التي تحقق التقدم بالمعنى الحضاري الشامل.

عرضت لطلابي نموذج الصحافة الأمريكية التي قامت بتعريف المجتمع بالعلماء والمخترعين، فتسابقت الشركات للتفاوض معهم لاستغلال ابتكاراتهم، فتحقق التقدم، وحققت الصحافة الحرة للعلماء الشهرة والثروة، فانطلق الباحثون في المجالات كلها يفكرون ويبحثون ويقدمون حلولا لمشكلات المجتمع، وهذا يعني أن الصحفيين قاموا بدور قيادي في بناء قوة أمريكا وتقدمها.

أرفض التقليد ولكن!

تعجب الطلاب الذين يعرفون موقفي النقدي من دول الاستعمار القديم والجديد: كيف أقدم التجربة الأمريكية كنموذج يمكن تقليده؟ فأجبت بأن العلم يعمل لاكتشاف الحقائق وتوظيفها في بناء المستقبل، والاستفادة من التجارب المختلفة، وهذا النموذج يوضح طموح القادة الأمريكيين الذين رأوا أن الصحافة الحرة هي وسيلتهم لبناء المستقبل وتحقيق التقدم، فهي التي يمكن أن تكتشف المبدعين والعلماء والاختراعات والأفكار الجديدة، ولذلك فهؤلاء القادة بنوا رؤيتهم للمستقبل، وأدركوا أهمية المعلومات والمعرفة، فقاموا بحماية حرية الصحافة في الدستور.

نموذج مانديلا وبناء القوة

لكنني شعرت أنني يجب أن أقدم نماذج جديدة أكثر إثارة للخيال، وأقرب لنا واقعيا وحضاريا، فقدمت نموذجا يبرهن على أن القيادة الاستراتيجية تحتاج إلى حرية الإعلام، لتبني قوة الدولة ومكانتها العالمية ووظيفتها الحضارية.

هذا النموذج قدمه الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا، الذي أطلق خياله السياسي في سجنه، فبنى رؤيته الاستراتيجية، التي تتضمن حلولا جديدة لمشكلات دولة تعاني الكراهية والتفرقة العنصرية، فكيف يمكن أن يُوحد هذه الدولة ويُطلق طاقات شعبها لبناء مكانة دولته الحضارية؟!

بعد توليه الرئاسة أكد أن حرية الصحافة عنصر أساس في بناء دولة قوية وشرعية، وأن الصحافة النقدية والمستقلة هي شريان الحياة للديمقراطية، لذلك يجب أن تكون الصحافة حرة من تدخل الدولة، ويجب أن تتمتع بالقوة الاقتصادية والاستقلال عن المصالح الخاصة لتكون جريئة واستقصائية، كما يجب أن تحظى بحماية الدستور، حتى تتمكن من حماية حقوقنا كمواطنين، وأن الإعلام شريك في بناء الأمة.

وحدة البلاد أساس التقدم

ماذا حققت استراتيجية مانديلا بتحرير الإعلام من السيطرة الحكومية، وهيمنة الشركات الكبرى؟ دراسة التجربة توضح أن تحرير الإعلام يشكل أساسا لبناء دولة ديمقراطية مستقرة وتوحيد الشعب، وأن خيال مانديلا قام بصياغة أهداف طويلة المدى، من أهمها بناء وحدة الشعب الذي عانى طويلا من التفرقة العنصرية، فتمكنت وسائل الإعلام الحرة من إدارة مناقشة حول كل القضايا، فتقبّل المجتمع نتائج الانتخابات، وتولى مانديلا الرئاسة، ليضع الأسس الدستورية والقانونية لدولة تحترم كرامة كل فرد وحقوقه.

هذا يعني أن وسائل الإعلام الحرة قامت بحماية حرية الوطن والمواطنين، وحققت الاتفاق العام، وبنت شرعية الحكم، وأقامت نظاما سياسيا متميزا يستفيد من تجربته التاريخية، ويمنع أسباب الظلم، فتقدمت الدولة وازدهر اقتصادها، وانطلق المواطنون جميعهم يُقيمون العمران، وجاء المستثمرون من الدول كلها يتطلعون لاستثمار عادل.

نحن صوت إفريقيا والعدل

لكن مانديلا تطلع إلى أن تكون جنوب إفريقيا صوتا لكل الشعوب الإفريقية في العالم، وتمكنت وسائل الإعلام الحرة من بناء صورة جديدة في أذهان الأفارقة تقوم على أنها تقود كفاحهم، وتدافع عن حقوقهم، وتنشر قصص كفاحهم، فحققت وسائل الإعلام الحرة القوة الناعمة وبنت مكانة الدولة العالمية.

وتطلع مانديلا إلى أن ترفع جنوب إفريقيا راية العدل في العالم، وهذا يفسر موقفها الشجاع ضد العدوان الإسرائيلي على غزة، ورفضها للإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، فرفعت القضية إلى محكمة العدل الدولية، وتمكنت بذلك من كسب عقول الأحرار العرب وقلوبهم.

المعرفة أساس القيادة الاستراتيجية

وسائل الإعلام الحرة توفر المعرفة للقيادة الاستراتيجية، فتمكنها من صنع قرارات تُعبّر عن آمال شعبها، وتبني رؤية مستقبلية تقوم على معلومات صحيحة، وفي غياب تلك الحرية يحصل الحاكم على المعلومات من المنافقين الذين يحيطون به، لينهبوا ثروات الوطن، ويتركوا الشعب يعاني الفقر والجوع والحرمان، ويزينون له الجباية وفرض الضرائب وانتهاك حقوق الإنسان، فيتم إغلاق باب الإصلاح، وينهار العمران.

ومن الواضح أن مانديلا تمكن من بناء دولة قوية باستخدام حرية الإعلام، وأدرك أن شرعيته ترتبط ببناء أسس التوافق الوطني القائم على الحوار، فينطلق الشعب ليُبدع ويبتكر ويبني صناعة وزراعة ومكانة إقليمية ودولية وقوة ناعمة وصلبة، ولذلك حقق مانديلا رؤيته المستقبلية لدولة ديمقراطية ترفع راية العدل وتحترم حقوق المواطنين، ومن أهمها حقهم في إعلام حر يوفر لهم المعرفة، ويدير الحوار، ويكشف الفساد والانحرافات.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان