“زيزو”.. مرآة لزمن يتغير

أحمد سيد زيزو في الأهلي رسميا
زيزو (منصات التواصل)

قبل سنوات، كان ولاء اللاعب لناديه الرياضي ثابتا وراسخا، وقليلا ما يتغير.

مؤشرات الانتماء كانت ظاهرة: البقاء رغم العروض الكبيرة، والتضحية بالفرصة الأغلى من أجل “الكيان”.

في وسط هذا الانتماء النبيل لم يكن أحد يسأل عن الأرقام، أو عن الأعباء النفسية، أو عن سقف الطموح الشخصي.

كان اللاعب مطالبا بالبقاء، بصرف النظر عن كل شيء، فقط لأنه “ابن النادي”.

جملة قاطعة وجامعة ومانعة، لا يتجرأ أحد أن يعيد قراءتها من جديد.

هذا الانتماء عقد غير قابل للنقض أبدا

في قصة أحمد مصطفى زيزو لاعب نادي الزمالك المصري وانتقاله إلى النادي الأهلي الغريم التقليدي لناديه السابق ما يكشف أن هذه المرحلة تلفظ أنفاسها الأخيرة.

قصة زيزو ليست مجرد “صفقة”، بل هي إعلان عن لحظة فارقة في علاقة اللاعب -أو الفرد عموما- بالجماعة أو بالكيان الذي لا يمكن تخطيه.

تحوُّل كبير من الانصهار في الكيان إلى البحث عن الذات، والإنصات لصوت داخلي يقول “أنا موجود”.

في المشهد الذي تصفه جماهير الزمالك عاطفيا بالخيانة، وهو حق مشروع لمشجعي الكرة، ومفهوم في سياق الغضب الكروي، تكمن المفارقة الأكبر.

زيزو فقط تخلى عن توقعاتنا القديمة

سبَّب انتقاله صدمة مفهومة لجماهيره ومحبيه، لكنه نبهنا إلى جديد بدأ يتشكل ليس في كرة القدم فقط، بل في المجتمع كله.

تمرد زيزو على ناديه يمكن قراءته بشكل أوسع: هناك محاولات من أجيال جديدة للتحول من فرد يمتزج بالجماعة، إلى إنسان صاحب قرار حتى لو خسر “الجماعة”.

اللاعب يفرض شروطه

في صفحات التاريخ كانت الأندية تساوم اللاعبين، وتضعهم أمام خيارات ضيقة وصعبة ومعقدة لضمان ولائهم.

فعلى اللاعب -مهما تألق- أن يصبر، وأن يقدّر ظروف النادي، وأن يقبل بما يُعرض عليه، لا بما يستحق.

في سطوة الأندية على اللاعبين، وباستخدام قوة “الكيان”، لم يكن اللاعب -الفرد- قادرا على الرفض أو الجدل، وإلا فالاتهام بالخيانة جاهز، ولن يستطيع أن يفر من غضب الجماهير التي لا ترحم.

الجيل الجديد من اللاعبين -وزيزو واحد من أبرزهم- لم يعد يرضى بهذا الدور.

أصبحت هناك أجيال تفكر وتحسب، وتقبل وتناقش وتعترض.

سقط نموذج ابن النادي المطيع أكثر من مرة خلال السنوات القليلة الماضية، لكن واقعة زيزو بالذات أنهت إلى الأبد مرحلة استسلام الفرد لـ”الكيان” الرياضي المهيمن والكبير، وأبرزت نموذجا جديدا.

ما بعد زيزو هناك اللاعب الذي يفاوض، ويضغط، ويضع شروطه، والذي يرى نفسه مشروعا مستقلا، لا تابعا ضمن مشروع جماعي لا رأي له فيه ولا مشورة.

لا يحق لأحد اتخاذ القرار نيابة عني، هكذا يفكر الجيل الحالي من اللاعبين.

زيزو ليس مجرد لاعب يرحل عن ناديه، بل هو تعبير عن تحوُّل أوضح، هو انتقال مركز القوة من الكيان الرياضي إلى الفرد.

هذا تغيير لا يمكن فصله عن تحوُّل اجتماعي أوسع نعيشه في المجتمع المصري كله.

الفرد والجماعة

التحولات الكبرى لا تبدأ من السياسة.

هذه حقيقة تثبتها الأيام والوقائع.

كل تحوُّل يطرأ على المجتمع يبدأ أثره في تفاصيل الحياة اليومية.

في العمل وفي البيت وفي العلاقات الاجتماعية.

ليس لاعب كرة القدم فقط هو من أصبح يطلب الرحيل، بل هناك من الشباب مَن يغادرون أعمالهم رفضا لمدير يصفونه بالتسلط، أو لإدارة لا تقدّر ما قدموه من جهد، أو لا تدير الشركة بالكفاءة والرشد المطلوبين.

لم تعد سلطة المدير مطلقة على جيل جديد لديه وعي مختلف وتجربة مختلفة عن أجيال سبقته في العمر.

لم يعد الشاب يقبل بصيغة ابن الكيان.

تفيض شبكات التواصل الاجتماعي بالسخرية من فكرة ابن الشركة التي لم تعد تستطيع احتواء وعي الأجيال الجديدة، ولا تقدّم لهم بديلا مناسبا عن جهدهم وكفاءتهم.

تغيير اجتماعي كبير صنعته تجربة السنوات العشر الماضية، وغذته ثورة الاتصالات بمبررات وأفكار.

في اليوم الواحد تهتز فكرة ابن الكيان مئات المرات كلما اطلع الشباب على تجارب دول تجاوزتنا في التقدم.

في المقابل، تترسخ وتتشكل قناعات أخرى عن تقدير الذات والكفاءة والإدارة الرشيدة والمساواة في العمل.

مفاهيم جديدة وزمن يتغير

حين يقرر زيزو أن ينتقل إلى نادٍ آخر -حتى لو كان الغريم التقليدي- فهو لا يفعل ما لم يفعله غيره، بل يمارس ما أصبح شائعا بين الجيل الجديد، وهو اختيار الذات وتقديرها.

زيزو -وجيله- لم يعد يقدّس الماضي بأفكاره وتقاليده وعاداته.

تغييرات اجتماعية كبرى أخرجت أجيالا تنظر إلى المستقبل بعين تحسب المكسب والخسارة.

بين هذه الأجيال يبقى الانتماء إلى الوطن فقط هو الثابت الذي لا يتغير.

وهو أمر طبيعي ومهم ومفهوم!

بمقدار الضجة التي صنعتها حالة زيزو، علينا النظر إلى الأمر بأنه عرض لحالة اجتماعية تطرح أسئلة مهمة.

هل نعيش زمن الانسحاب من “الكل الكبير” الذي أصبحت قواعده القديمة غير مقنعة؟ من يقرر عني؟ ولماذا؟ وما الذي أستفيده؟

هذه الأسئلة نفسها التي طرحها اللاعب الذي أثار الضجة على نفسه قبل اتخاذ قراره النهائي بالرحيل، هي التي يجب أن نجد الإجابة عنها في السياسة والدين والعلاقات الاجتماعية وغيرها!

رغم الغضب الجماهيري المبرَّر والمفهوم فإن الزاوية الأخرى للصورة تقول إن زيزو لم يتمرد على الزمالك، بل على فكرة أن يبقى رهينة لما يريده الآخرون.

هو زمن يعاد فيه تعريف كل شيء.

ومن الطبيعي أن يعيد اللاعب تعريف انتمائه.

ما بعد حكاية أحمد مصطفى زيزو لم تعد المباراة بين ناديين فقط.

بقراءة دقيقة ومختلفة فإن المنافسة أصبحت بين عالم قديم يقوم على الولاء، وعالم جديد يعلو فيه صوت الفرد ليطالب بالعدالة والإنصاف.

الآن صار زيزو رمزا لهذا التحول حتى لو لم يصنعه بنفسه!

فهو كغيره من أبناء هذا الجيل الذي قرر أن يبحث عن ذاته حتى لو أغضب الجماعة.

وهي ظاهرة تستحق الدراسة والتحليل لنفهم بدقة ما يحمله الغد!

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان