مادلين… من ضحية للحصار إلى شراع للحرية

القارب مادلين في طريقه لكسر الحصار عن غزة
القارب مادلين في طريقه لكسر الحصار عن غزة (مواقع التواصل)

منذ 2007 وحتى اليوم، حول الاحتلال الإسرائيلي بحر غزة وسماءها وأرضها إلى منطقة محرمة، فلم تتمكن أي سفينة أو قارب من الوصول إلى شواطئها لكسر الحصار، كانت هناك أكثر من 10 محاولات سعت من خلالها اللجنة الدولية لكسر الحصار، إلى الاقتراب من شواطئ غزة، لكنها جوبهت بعنف إسرائيلي لا يرحم.

في العقلية الصهيونية لا يكفي قصف الدبابات ولا نيران الطائرات المقاتلة لإنهاء الحياة في القطاع وإخضاعه، بل يضاف إلى ذلك الجحيم، منع دخول أي شيء، فلا بد أن تخضع كل حبة أرز أو قطرة ماء لمراقبة دقيقة كما تراقب منشآت اليورانيوم.

أخطار وتحد

ورغم التهديدات والأخطار الجسيمة التي يفرضها الاحتلال على كل قارب أو سفينة تحمل مساعدات ونشطاء سلميين يحاولون الاقتراب من القطاع، فإن عزيمة من يسعون إلى كسر هذا الحصار -ولو بشكل رمزي- لم تنكسر. فما إن تتعرض سفينة للقصف أو التهديد أو الاحتجاز، حتى تنطلق أخرى بتحد لا يخبو، وكأن رياح البحر الأبيض المتوسط لا تهب إلا باتجاه غزة.

في مايو/أيار الماضي انطلقت سفينة تابعة للجنة الدولية لكسر الحصار تحمل مساعدات عينية، لكنها ما إن وصلت مالطا حتى تعرضت لقصف من مسيّرة صهيونية، أدى إلى غرقها وإلغاء الرحلة، ومع ذلك لم يتقاعس النشطاء عما يقولون إنه واجب حتمي وإنساني يلزمهم أن يعيدوا الكرة تلو الأخرى، لا لشيء سوى الإصرار على تحدي العنجهية الإسرائيلية ودفع العالم إلى اتخاذ مبادرات مشابهة لما يقومون به، شعارهم في ذلك أن التنديد لا يكفي وأنه لا بد أن ترافق الرفض أفعال حقيقية على الأرض.

والسؤال: لماذا تخيف هذه القوارب والسفن الصغيرة إسرائيل؟ ولماذا تقصف وتعتقل من فيها مرارا وتكررا دون تحرك دولي؟ فما التهديد الذي تحمله تلك السفن لجيش مدجج بالأسلحة؟

ولعل الإجابة لا تكمن فيما تحمله هذه القوارب الصغيرة ولا في أهمية من على متنها، فهم مجرد نشطاء مسالمون، بل في الخوف الإسرائيلي من الرمزية والرسالة التي تحملها تلك القوارب في سعيها لكشف الحقيقة، فالسجان يحرص دائما على حبس سجينه في أسر محكم، بين جدران وأقفاص وظلام دامس، ليمارس عليه ما يحلو له من أصناف العذاب، بعيدا عن الأنظار، وهذه السفن الصغيرة المسالمة كمن يحاول أن يكسر قيد السجن الكبير الذي أحاطه المحتل بغزة، لينقل للعالم حقيقة هذا السجن وما يمارس بحق السجين. تلك هي المسألة ببساطة.

حصار يمنع الهواء

ففي غزة، أصبح تنفس الهواء خاضعا لتصريح، ورحلة البحث الشاقة للنبش عن أي شيء يعين على البقاء، تهديدا يدعو الاحتلال إلى الدفاع عن نفسه، فالحصار فلسفة، لا تعني الاستعمار فقط وإنما الإحلال، منطقها مثلا: لا حاجة لحليب الأطفال، فهم مشاريع مقاومة ولا حاجة لمعدات إزالة آثار الدمار فربما تستخدم لحفر الأنفاق ولا حاجة لإدخال الدواء، فحالة الجرحى مستعصية وموتهم رحمة، ولا حاجة لإدخال الماء، فماء البحر وفير.

باختصار، إن نجاة الفلسطيني في غزة أو الضفة هي خوف يهدد حياة الصهاينة، لأن الحياة هناك فعل مقاومة. والمشي على الأرض وسط الدمار، وفتح نافذة تطلّ على جدار، وشرب الماء، كلّها أصبحت تُعدّ “أنشطة مُعادية”.

كل ذلك والعالم قلق جدا، ويطالب إسرائيل دون أن يلجمها، وأقصى ما فعلوه في الأمم المتحدة هو أنهم عقدوا اجتماعا طارئا وألقت أمريكا في وجههم الفيتو الشهير، فصمتوا، ثم ذهبوا جميعا لتناول الغداء.

المحاولة هي النجاة

وأمام هذا الواقع المشوه والظالم، انطلق القارب “مادلين”، حاملا أمل الوصول إلى غزة، وحتى كتابتي لهذه السطور، علمت أنه أصبح قريبا من السواحل المصرية، والسيناريوهات حول مصيره معروفة لدى الكل، لكنه انطلق برمزية المرأة الفلسطينية التي تصطاد الحياة بشباكها بين ضربات المدافع، فقد سُمي القارب تيمُّنًا بالصيادة الغزية مادلين كلاب التي اختارت مهنة الصيد خلفًا لوالدها المريض لسد جوع إخوتها، متحدية الحصار والقذائف التي تصيب قوارب الصيادين يوميا.

مادلين كلاب، تشبه كثيرا قارب النشطاء الذي يصارع أمواج البحر وحيدا، منطلقا من شواطئ إيطاليا، لم يستمع كلاهما إلى من يدّعي صوت العقل: “إن تلك مهمة مجنونة، كمن يسعى للانتحار”، مذكرا بمصير السفينة “مرمرة” التي قتل الاحتلال 10 من ركابها، لكن هؤلاء الأبطال يرون أن ذلك نقيض تماما لهدف قاربهم، إنه السعي للحياة ذاتها، فالمحاولة هي النجاة.

يدرك النشطاء أن أي شيء متوقع من دولة الاحتلال، كما يوثق موفد قناة الجزيرة مباشر عمر فياض الذي يرافقهم، خط سير الرحلة لحظة بلحظة، كما أنهم أصروا على التوشح بالكوفية الفلسطينية، في رسالة للمحتل تعني أن حياتنا ليست أكثر أهمية من حياة الفلسطينيين، نحن منهم أيضا، فكلما زاد عدد الضحايا، يولد من جديد أبطال يعيدون تنظيم صفوفهم كما يعيد نشطاء أسطول الحرية ترتيب صفوفهم بعد كل محاولة تغرق آمالهم.

توعد قاس لقارب صغير

في المقابل، يستعد جيش الاحتلال لمواجهة القارب الصغير، بين تحذير متكرر وتوعد قاس، بالقصف أو الاعتقال، كما حدث مرات عديدة لقوارب أخرى لناشطين حاولوا كسر الحصار، كل ذلك بحجج واهية تدعي أن هذه القوارب تعتبر غطاءً لنقل أسلحة لحماس، وهي ذات الأكاذيب التي تخفي فيها إسرائيل عنجهيتها وإصرارها على خنق القطاع وحصاره.

الاحتلال الصهيوني يدرك تماما ما يفعله في غزة، فالأمور تسير وفق برنامج أعد مسبقا، إنه التجويع إلى جانب القتل وكسر الروح، تجويع قد يدفع الإنسان الذي يتمسك بالحياة إلى التخلي عن مبادئه في سبيل النجاة، إنه محاولة خبيثة للسيطرة ليس فقط على الحياة، بل على أي بذرة تنمو.

صحيح أن التجويع قد يحقق نتائج مؤقتة على صعيد إضعاف حركات المقاومة أو إجبارها على تقديم تنازلات لحماية المدنيين، لكنه نادرًا ما يؤدي إلى استسلام المقاومة أو الشعوب، خصوصا تلك التي تتمتع بانتماء قوي لقضيتها الوطنية.

وبالتأكيد فإن التاريخ يمقت هذه الجرائم وإن أشاح بوجهه عنها زمنا طال أو قصر، فكل مدينة جُوّعت، لَم تمت، بل عادت أقوى. لينينغراد جاعت، لكن لم تُهزم وسرايفو حوصرت وقاومت وغيرهما الكثير، وها هي غزة تُحاصر وتُقصف وتُجَوَّع، لكنها تلد أطفالا بأسماء: “حرية”، و”كرامة”، و”مادلين”.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان