غزة تجوع والعرب يهدرون

في الوقت الذي تعصف فيه الأزمات الإنسانية بمناطق كثيرة في العالم، وتتصاعد الصراعات، يعيش ملايين من البشر تحت خط الفقر والجوع، وفي القلب من هذه المأساة، تبرز غزة كمأساة إنسانية حية تعري ضمير العالم.
وفي هذا الواقع المؤلم، تبدو الأمة الإسلامية، التي يُفترض أن تكون نموذجا في الرحمة والتكافل. عالقة في حالة انفصام جمعي عميق، ويكشف المشهد عن مفارقة مؤلمة: نحن أمة تُسرف وتهدر الطعام، وتعيش ترفا وإسرافا، بينما يتضور منا الملايين جوعا.
الهدر العربي للطعام
في عالمنا العربي الممتد من الخليج إلى المحيط، تُنفق مليارات الدولارات على الأطعمة والولائم والاحتفالات، ويزداد الإنفاق بأرقام مذهلة في المواسم الدينية، خاصة في رمضان والحج وعيدي الفطر والأضحى، والمناسبات الأخرى؛ ما ينذر بانهيار المعنى الحقيقي للعبادات، ويسلط الضوء على أزمة قيمية عميقة يعيشها جزء من الأمة الإسلامية.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsدعوة صادقة لقادة الدول الإسلامية
هل انتهى المشروع النووي الإيراني إلى غير رجعة؟
الضربة النووية بين استعراض ترامب والتهوين الإيراني
وفي الوقت الذي يباشر فيه الاحتلال الإسرائيلي الصهيوني عملية إبادة وتجويع ممنهجة لأكثر من مليوني فلسطيني في غزة، تكشف الإحصائيات عن أرقام مهولة لهدر الطعام في العالم العربي. مشهد أخلاقي فاضح، حيث تتجاور التخمة مع الجوع؛ يُعري حالة الانفصام العميق الذي أصاب ضمير الأمة.
فعلى بُعد أميال قليلة، هناك شعب محاصر يقاتل الجوع كما يقاتل المحتل الصهيوني. إنها غزة التي تعاني شحّ مقومات الحياة، لكنها متخمة بالكرامة والعزة، رغم أن الطعام لم يعد وجبة، بل معركة.
يشير تقرير صادر عن الأمم المتحدة إلى ضخامة حجم الهدر العربي للطعام، ويعكس حالة من الترف المفرط.
ووفقا لتقرير “مؤشر إهدار الأغذية 2024” الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة، فإن الدول العربية تُعد من بين الأعلى عالميا في معدلات إهدار الطعام، بمقدار سنوي يبلغ نحو 40 مليون طن، أي بمعدل 250 كيلوجراما للفرد الواحد.
وعلى جانب آخر، فإن كميات كبيرة من لحوم الأضاحي تُهدر سنويا بسبب سوء التخزين أو غياب آليات فعالة لتوزيعها، في وقت تُذبح فيه ملايين الأضاحي في دول عديدة دون خطة مدروسة لتوجيه هذه الموارد الغذائية نحو المحتاجين، خاصة في مناطق الأزمات الإنسانية، حيث توجد مئات الآلاف من الأسر في غزة واليمن والصومال وغيرها لا تجد ما تسدّ به جوعها.
أرقام صادمة ومفارقات مؤلمة
تُظهر التقارير المتوفرة أرقاما صادمة لحجم الهدر في المنطقة العربية؛ حيث يُهدر أكثر من 40 مليون طن من الغذاء سنويا، تنتهي في صناديق النفايات.
فنحن أمام كميات هائلة من الطعام تكفي لإطعام عشرات الملايين، ينتهي بها المطاف في مكبّات النفايات. مشهد يعكس التناقض الفجّ بين الوفرة في بعض المناطق والجوع القاتل في مناطق أخرى، وعلى رأسها قطاع غزة.
تُقدّر الإحصائيات المتوفرة قيمة الطعام المُهدَر في العالم العربي بنحو 150 مليار دولار، وهو رقم يفوق بعشرات المرات ما قُدّم من دعم عربي رسمي لفلسطين خلال عقدين.
غزة.. حين يصبح الجوع سلاحا
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، يعيش سكان قطاع غزة حصارا عسكريا إسرائيليا محكما بتواطؤ دولي. وقامت قوات الاحتلال الإسرائيلي بتدمير شامل للبنية التحتية الغذائية وكافة مظاهر الحياة، ويمنع دخول المساعدات الإنسانية.
ووفقا للأرقام الصادرة عن الأمم المتحدة في يونيو/حزيران 2024، فإن 96% من سكان قطاع غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، بينما يعيش أكثر من 495 ألف شخص –أي نحو ربع السكان– في مرحلة المجاعة الكاملة.
ويشير التقرير إلى أن أكثر من 80% من السكان يعتمدون بالكامل على المساعدات الإنسانية، التي غالبا ما يمنعها الجيش الإسرائيلي أو يستهدفها بالقصف. في حين ارتفعت أسعار المواد الغذائية بأكثر من 1000%، لتغدو بعيدة عن متناول الغالبية العظمى من الناس.
ويذكر التقرير الأممي أن عددا كبيرا من السكان اضطروا إلى أكل الحشائش وطحن الأعلاف؛ لتأمين الحد الأدنى من الطعام، في ظروف لا تليق، وغير إنسانية، ولا تتوافق مع المبادئ الدينية والأعراف والمواثيق الدولية.
خذلان ناعم.. تخمة عربية وتجويع لغزة
في مقابل هذا المشهد الصادم في غزة، يبدو العالم العربي وكأنه نسي، أو تجاهل، أو –على الأرجح– يمارس خذلانا ناعما. هناك تخمة روحية يقابلها مجاعة ضمير، وتخمة مادية يقابلها انفصام جمعي يتجلّى في كل التفاصيل: من الهدر الغذائي إلى الترف المفرط، ومن بيانات الشجب الباردة إلى مؤتمرات لا تقدّم شيئا.
إن غزة مرآة لما عليه الأمة الآن: صلابة أهلها تكشف هشاشتنا، وصمودهم يفضح رخاوة تضامننا.
حديثنا ليس دعوة لجلد الذات، بل محاولة للاستنهاض، ولو بالحد الأدنى من الواجب الإنساني والأخلاقي، أن تكون غزة حاضرة في وعينا، وأن نراجع أولوياتنا.
نحو ضمير جمعي للخروج من الأزمة
كان العرب قديما إذا نال منهم عدو، منعوا أنفسهم من اللهو واعتزلوا ترف الحياة، ولا يسمح الواحد منهم لنفسه بالفرح إلا إذا نال ثأره من عدوه. ولخّص ذلك النابغة الذبياني فقال:
فَنِمْتُ اللَّيْلَ إِذْ أَوْقَعْتُ فيكم … قَبَائِلَ عَامِرٍ وبني تَمِيم
فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْتُ قَبْلًا … أكَادُ أَغَصُّ بالماءِ الفُراتِ
ويقول صلى الله عليه وسلم:
“ليسَ المؤمنُ الَّذي يشبَعُ وجارُهُ جائعٌ إلى جنبِهِ”.
إن هناك مسؤولية جماعية تفرض علينا التحرك من الإنكار إلى الفعل، وأن ندرك مخاطر الهدر الغذائي والإسراف والترف على أمن أمتنا، وأن نحوّل قيمة ذلك لدعم فقراء الأمة في غزة وغيرها. لا بد من الضغط الشعبي والسياسي لكسر الحصار، وليس فقط تقديم المساعدات.
“تخمتنا وتجويع أهل غزة” ليست مجرد كلمات أو عنوان، بل صرخة في وجه اللامبالاة، وتذكير بأن إنسانيتنا لا تكتمل إلا بتقاسم الألم قبل النِعَم. فليس من العدل أن تأكل العواصم حتى التخمة، بينما تجوع غزة برجالها ونسائها وأطفالها حتى الموت.