الاستقالة في كوكب اليابان!

تمثال لحصان الساموراي في طوكيو (منصات التواصل)

يستدعي حادث طريق مأساوي في مصر نقاشًا لازمًا عن الفرق بين الثقافتين العربية واليابانية، وعن المنظومة الأخلاقية التي تحكم العلاقات المجتمعية، وانعكاساتها على معتقدات وسلوك الساسة والمسؤولين هنا في وطننا العربي الكبير، وهناك في بلاد الشمس المشرقة.

تعتبر الأجيال الجديدة في منطقتنا العربية أنها ليست بلدًا عاديًّا، بل كوكب ينطلق وحده نحو فضاء الحضارة، في إشارة إلى أن البلد الذي يتكون من مجموعة جزر تطل على المحيط الهادئ، وخرج مهزومًا ومنكسرًا ومستسلمًا من الحرب العالمية الثانية عام 1945، بعد أن أُلقيت على مدينة “هيروشيما” أول قنبلة ذرية، استجمع قوته عبر عقود ومضى إلى الأمام حتى وصل إلى مرحلة من الرفاهة والرقي والنضج واستغلال التكنولوجيا تجعله كوكبًا محلّقًا بعيدًا عن الأرض.

ثقافة الاعتذار


إن جانبًا آخر في الثقافة اليابانية يجعلها كوكبًا فريدًا بحق، وليس فقط بلدًا جغرافيًّا بعيدًا، وهو ما يتعلق بثقافة الاعتذار عن الخطأ، واعتبار تمام الشرف هو تحمّل المسؤولية عند الإخفاق، والاعتراف السريع بالفشل أو التقصير.
تنعكس ثقافة الاعتذار المتأصلة عند اليابانيين على الساسة والنخب، والمستويات القيادية من رأس السلطة إلى أطرافها، فيصبح من الشائع الانسحاب من المشهد، والابتعاد عن مقعد القيادة احترامًا للذات وللمجتمع، وصونًا للنظام من استمرار الفاشلين دون حساب، واللافت أن هذا يحدث دون انتظار لضغوط من الرأي العام عبر الصحافة الحرة أو مواقع التواصل الاجتماعي أو مؤسسات المجتمع المدني.

تراث الـ”ساموراي”


تشكل منظومة القيم والمبادئ التي حكمت سلوك طبقة المحاربين الـ”ساموراي” في اليابان إبان عصر الإقطاع جانبًا مهمًّا من تقاليد الثقافة اليابانية، حيث شكل الـ”ساموراي” نخبة المجتمع الياباني من الجنود إلى القادة العسكريين والإداريين، وكانت طبقة اجتماعية تتمتع بمزايا وتحظى بتقدير كبير، وسيطرت على الحياة اليابانية نحو عشرة قرون (من التاسع حتى التاسع عشر)، واستمدت تقاليدها من مدونة “بوشيدو” (Bushido) الأخلاقية، ومعناها “طريق المحارب”.
اعتمد سلوك الـ”ساموراي” في البداية على القوة البدنية والمهارة القتالية، لكن تأثيرات البوذية والكونفوشيوسية أدت إلى تغلغل القيم الروحية والفلسفية في المحاربين، وأصبح الـ”بوشيدو” نظامًا أخلاقيًّا صارمًا يُدرّس ويُلقّن للمحاربين الصغار.

مبادئ الـ”بوشيدو” هي: العدالة، والشجاعة، والرحمة، والاحترام، والصدق، والشرف، والولاء. ومع اتفاق ثقافات متعددة على مفاهيم عامة لهذه المبادئ، فإن الشرف لدى اليابانيين ليس ماديًّا كما هو شائع في الثقافة العربية والإسلامية، وليس مرتبطًا بأن تُراق على “جوانبه الدم”، لكن الشرف في المفهوم الياباني يعني الحفاظ على السمعة الطيبة، والكرامة الشخصية، وعدم جلب العار إلى النفس أو العائلة، ليس فقط للأسباب المعتادة كالكذب، والسرقة، والخيانة، والاختلاس، ولكن أيضًا لأسباب خاصة باليابانيين، كالفشل، والتقصير، والخطأ، والإخفاق في الوصول إلى الهدف، خاصة لو كان مرتبطًا بالمجتمع وله بُعد قومي.
وقد ساد في الثقافة اليابانية المفهوم المستمد من تراث الـ”ساموراي” الذي يعتبر الانتحار شرفًا، وهو ما يعرف بالـ”سيبوكو” أو الـ”هاراكيري”، وهو التكفير عن الفشل أو الخطأ والتقصير بفقد الحياة عبر الانتحار، ويُعتبر الـ”هاراكيري” هو أعلى درجات الشرف عند الـ”ساموراي”، وأشهر تعاليم الـ”بوشيدو” التي تدعم هذا الاعتقاد مقولة أيقونية قديمة وهي: “إذا خُيّرت بين الحياة بلا شرف أو الموت بكرامة، فاختر الموت”.

مثال الانضباط


أُلغيت طبقة الـ”ساموراي” رسميًّا في القرن التاسع عشر، فانضم جزء منهم إلى الجيش الياباني الحديث، وتحول آخرون إلى بيروقراطيين، وإداريين، وشكل جزء منهم طبقة المثقفين، وتحول الـ”ساموراي” إلى رمز قومي وثقافي في اليابان، ويُعتبر أعلى مثال للانضباط والشرف في الثقافة اليابانية.
انعكس تراث الـ”ساموراي” على ثقافة النخبة في اليابان اتجاه الفشل والتقصير، فأصبحت هذه الثقافة نموذجًا فريدًا، ولها قِيَم تختلف عن نظيراتها في معظم دول العالم. فالاستقالة ليست بالضرورة اعترافًا بالذنب، بل كثيرًا ما تكون تعبيرًا عن تحمّل المسؤولية الأدبية، حتى وإن لم يكن الشخص مسؤولًا مباشرة عن الخطأ. فقد استقال رئيس الوزراء “ناوتو كان” عام 2011 بعد كارثة فوكوشيما النووية، رغم أن الكارثة طبيعية نتجت عن زلزال كبير، لكنه اعتبر أن حكومته لم تكن مستعدة للكارثة بما يكفي، فقدم استقالته ليتحمل المسؤولية أمام الرأي العام.
ويسجل تاريخ اليابان الحديث حالات كثيرة من الاستقالة لأسباب لا تؤدي بالضرورة إلى الاستقالة خارج اليابان.

مقارنة واجبة


في عالم السياسة، يمكن للاستقالة أن تكون لحظة قوة لا ضعف، وبادرة إحساس بالمسؤولية لا هروبًا من الأزمة. وفي اليابان، يستقيل المسؤول قبل أن يُطلب منه ذلك، لأن ما يسيطر عليه هو تحمّل المسؤولية، وليس مجرد إثبات البراءة، كما أنه يعتبر الاستقالة وسيلة لحماية الحكومة أو النظام من تصاعد الغضب العام، وتُحسب لصالح الشخص لا ضده، وقد أدى هذا المفهوم إلى أن تتحول الاستقالة إلى ثقافة راسخة، وممارسة أخلاقية عالية تحترم العقل العام، وتمنح النظام السياسي مصداقية متجددة.
أما في عموم بلادنا العربية -مع استثناءات نادرة- فيغيب مناخ المحاسبة، وتُدار المناصب بمنطق الغنيمة، وتصبح امتدادًا للنفوذ الشخصي، لا عبئًا عامًّا أو مسؤولية وطنية، وما زالت ثقافتنا العربية تعامل الاستقالة على أنها وصمة عار، أو تنازل مجاني عن النفوذ والجاه، وبسبب تلك العقلية، فإنه نادرًا ما نشهد استقالة طوعية لمسؤول، حتى لو وقعت كوارث، أو انكشفت فضائح، وعندما يستقيل أحدهم، يكون ذلك غالبًا بعد ضغوط شديدة، أو ضمن تصفية حسابات داخل النظام.

نموذج عربي


قبل أسبوع، تسبب حادث سير في وفاة سائق وثماني عشر فتاة في عمر الزهور من إحدى قرى محافظة المنوفية، وسط دلتا النيل بمصر، بسبب إصلاحات على الطريق الإقليمي الذي يمر عبر المحافظة.
تسبب الحادث في صدمة مجتمعية، بسبب ارتفاع عدد الضحايا، وأعمارهن الصغيرة، والقصص الإنسانية المؤثرة التي تواترت عن كفاحهن بحثًا عن دخل بسيط من جني المحاصيل لمساعدة أنفسهن وأسرهن على تكاليف الحياة.
وزير النقل والمواصلات المصري كان في زيارة لتركيا، ولم يقطع زيارته إلا بعد يومين من الحادث، وعندما تفقد الطريق، لم يذهب لأداء واجب العزاء لأسر الضحايا، رغم أنه كان قريبًا من القرية، مما أثار استياءً وغضبًا لدى الرأي العام من خلال مواقع التواصل الاجتماعي.
لم يتوقف الغضب على الوزير بسبب هذا السلوك، بل زاده حوار متلفز مع إعلامي مثير للجدل، تحدّث فيه عن أنه مقاتل تخرّج في كلية عسكرية، ولا يمكنه الرضوخ لمطالب الاستقالة.
لم تكن “لن أستقيل” مجرد عبارة غاضبة ومتحدية وردت على لسان وزير النقل والمواصلات المصري كامل الوزير، بل هي ثقافة السلطة السائدة لدى النخب العربية، التي تعتبر الاستقالة فشلًا وانسحابًا من ميدان القتال، حيث يعكس سلوك الوزير المصري وآراؤه الصادمة بعد حادث استشهاد الفتيات، اتجاهًا عامًّا لدى النخب الحاكمة في عموم الدول العربية.
ما لم يقله وزير النقل المصري تصريحًا في حواره الغاضب، وفُهم تلميحًا، هو أنه ليس من حق أحد أن يطالبه بالاستقالة، لأنه كان متفردًا بين دفعته ، ويبدو أن أمام عالمنا العربي “سنوات ضوئية” ليستطيع الساسة استيعاب وفهم ثقافة الـ”ساموراي” اليابانية، التي تعتبر الاستقالة نوعًا من الشرف، وليس عقوبة للإقصاء. وهذا يعني أن أمامنا سنوات أخرى لكي يظهر في بلادنا وزراء ومسؤولون من الـ”ساموراي”.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان