الاستقلال أم التبعية؟ صراع الهيمنة والمقاومة في الشرق الأوسط

المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي
المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي (رويترز)

(1) نداء من غزة إلى كل الدول المحتلة

كم مرة سمعنا الحديث عن “انتحار” الشعب الفلسطيني لأنه يواجه بصدر عار دولة الاحتلال الإسرائيلي بجيشها القوي، وسلاحها المتفوق، وقدراتها الاستخباراتية العالية، ودعم أمريكا الدبلوماسي والعسكري غير المحدود؟

كم مرة سمعنا مقولة: لقد دمّر السنوار غزة بطوفان أغرقها، ولم يُغرق دولة الاحتلال، بل طفت هذه الأخيرة فوق جثث شهداء كتائب القسام وفصائل المقاومة من قادة وجنود، وأكدت أنها الجيش الأقوى في المنطقة القادر على تدمير غزة وإبادة شعبها دون حسيب أو رقيب؟

وها هي دولة الاحتلال تتمدد على أراضي سوريا والجنوب اللبناني، وتهدد باغتيال المرشد الإيراني في عقر داره، ونجحت في تدمير جزء مهم من مقدرات إيران العسكرية والنووية بمساعدة أمريكية، واغتيال العديد من القادة العسكريين والعلماء عبر شبكة جواسيس تعمل لحساب الموساد في الأراضي الإيرانية… إنها الدولة التي “لا تُقهر”، دولة الردع التي تخطط بنجاح لشرق أوسط جديد ليس فيه دولة تسمي فلسطين أو محور مقاومة تدعمه إيران.

تطرح هذه الأصوات مفهومها حول القوة ومعطياتها والنتائج المنطقية لتفعيلها، وتنسى الحديث عن دورة حياة الإمبراطوريات العظمى وحروب الاستقلال، وكيف أن الأخيرة كانت دائما غير متكافئة في القوة العسكرية، فهناك محتل يمتلك جيشا قويا وأسلحة متقدمة، يقابله شعب اختار طريق المقاومة المسلحة المشروعة لينعم باستقلال بلاده وكرامته في وطنه، ولو كان هناك -يوما ما- تكافؤ في القوة، لما تمكّن المحتل من إتمام مهمته.

وفي عالمنا العربي، نتخذ دائما من الجزائر -بلد المليون شهيد- مثالا على التضحية من أجل الاستقلال عن المستعمر الفرنسي الذي ظل لأكثر من 130 عاما، وحينها كان هناك من يتحدث عن “جنون” جبهة تحرير الجزائر، و”تهور” قادتها الذين أعلنوا الحرب على فرنسا القوية.

حرب غزة هي حرب استقلال: تهدف إلى تحرير أرض وشعب من سيطرة قوة محتلة، عبر مقاومة شعبية مسلحة وتعبئة جماهيرية واسعة. الشعب الفلسطيني بأطيافه كافة طرف رئيس في هذا الصراع، ولا يمكن لشعب أن يتحرر دون تقديم تضحيات ضخمة، ومقاومة المحتل فعل مشروع تقره المواثيق والأعراف الدولية.

(2) الحكم غير المباشر

هل يمكن تفسير ما يحدث من حروب وصراع وعنف في الشرق الأوسط بعيدا عن فهم المعنى الحقيقي للاستقلال؟ ورغبة الولايات المتحدة المحمومة في استمرار تبعية دول المنطقة لها، وإدخالها جميعا -بلا استثناء- في “بيت الطاعة الأمريكي”، للحفاظ على مصالحها؟

في كتاب “الحكم غير المباشر: صناعة التسلسل الهرمي الدولي للولايات المتحدة” للكاتب ديفيد أ. ليك (2024)، يشرح المؤلف كيف تعتمد الولايات المتحدة على “الحكم غير المباشر”، لفرض هيمنتها عبر وسائل متعددة: الأدوات الاقتصادية، دعم الأنظمة الموالية لضمان تبني سياسات تخدم مصالحها، العقوبات الاقتصادية كسلاح استراتيجي، سلاح الدولار التدخل العسكري المباشر أو الحروب بالوكالة، وأخيرا التلاعب الثقافي والإعلامي والدعاية المثيرة للفتنة.

أمريكا العظمي تقابل الآن تغيرات في السياسة العالمية، خاصة مع التوسع في رفض سياساتها التدخلية تحت مظلة “الديمقراطية وحقوق الإنسان” ومعايرها المزدوجة، وهو ما يشكل تحديا لنمط الحكم غير المباشر الذي اعتمدته لعقود، ولهذا نجد أمريكا تتبجح بقدرتها على الردع بقوتها العسكرية “التي لا تقهر” بعد تراجع مكانتها، وهو ما استخدمته مع طهران التي تعتبرها من “الدول المارقة” التي يجب تأديبها وتقليم أظافرها لتدخل طوعا أو كرها الحظيرة الأمريكية.

(3) حين تدافع إيران عن هويتها واستقلالها

منذ اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979، والجمهورية الإسلامية تعادي أمريكا وتعتبرها “الشيطان الأعظم”، وكذلك إسرائيل.

إيران الثورة كانت تبحث عن استقلالها بعيدا عن التبعية الغربية، ساعية لمسار يتوافق مع تاريخها العريق وهويتها الأصيلة، وإصرارها على مواصلة برنامجها النووي رغم كل العقوبات والعقبات هو تمسك بهذه الاستقلالية وتحدي للتبعية.

في مقال لـ”باتريك وينتور” نشر في صحيفة “الجارديان” البريطانية يوم 23 يونيو الماضي، بعنوان “لماذا يعد البرنامج النووي الإيراني ضروريا لهويتها؟”، كتب أن إعلان الثورة الإيرانية الذي كُتب في باريس عام 1978 بحضور الإمام الخميني، ارتكز في البداية على مبدأين: الديمقراطية والإسلام، إلا أن الخميني أضاف بخط يده مبدأ ثالثا هو: “الاستقلال”.

هذا المبدأ الثالث، نابع من تاريخ استغلال القوى الاستعمارية لإيران، وهو ما يُساعد على تفسير ما قد يبدو غامضا في الخلاف الحالي بين إيران وأمريكا.

ويضيف الكاتب في مقاله قائلا: يساعد تقرير جديد مقنع لوالي نصر، بعنوان “الاستراتيجية الكبرى لإيران”، على إيجاد إجابة لهذا السؤال من خلال ربط الإجابة بالاستغلال الاستعماري لإيران وسعيها نحو الاستقلال، وجاء في هذا التقرير: “قبل الثورة نفسها، وقبل أزمة الرهائن أو العقوبات الأمريكية، وقبل الحرب الإيرانية العراقية أو جهود تصدير الثورة، وكذلك الإرث القذر لمواجهات إيران مع الغرب، كان المرشد الأعلى والقائد المستقبلي لإيران يقدر الاستقلال عن النفوذ الأجنبي باعتباره مساويا لمبادئ الإسلام الراسخة في الدولة، ولقد سئل خامنئي ذات مرة عن فائدة الثورة، فأجاب: “الآن تتخذ جميع القرارات في طهران”.

ويذكر نصر في تقريره بأنه مع تآكل وتشويه العديد من المُثُل العليا للثورة، كالديمقراطية والإسلام، فإن مبدأ الاستقلال الإيراني قد صمد، مضيفا: “السعي وراء السيادة نابع من تاريخ إيران، ففي القرن التاسع عشر، كانت إيران محصورة بين القوتين الإمبرياليتين البريطانية والروسية، وفي القرن العشرين، استغلت شركات النفط البريطانية مواردها النفطية، وأقيل قادتها مرتين -عامي 1941 و1953- على يد البريطانيين والأمريكيين. أقيل رئيس الوزراء محمد مصدق، الذي كان يتمتع بشعبية واسعة، في انقلاب دبرته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية عام 1953 لمطالبته بالسيطرة على موارد إيران النفطية. لا يوجد حدث في التاريخ الإيراني المعاصر أشدُ جرحا من إسقاط مصدق.

تاريخ الغرب مع إيران لا يتسم بالود، والحاضر لا يمكن تفسيره بمعزل عن الماضي ومحاولة استشراف المستقبل لتصبح الرؤية جلية.

إيران الجريحة بعد الضربات التي وجهت لوكلائها في المنطقة، تعتبر أنها في حرب وجود مع الغرب، والدفاع عن البرنامج النووي هنا ليس مجرد خيار سياسي، بل هو صون للاستقلال والهوية، وهو حق طبيعي للأمم التي ترفض الاستسلام، فالتاريخ يُكتب بدماء المقاومين لا بدموع المستسلمين.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان