رجلان وامرأة.. يصنعون التاريخ في ماليزيا المدهشة!

رئيس وزراء ماليزيا أنور إبراهيم وزوجته (غيتي)

هناك حالة إعجاب من جانبي بدولة ماليزيا المدهشة، التي تقع في جنوب شرق آسيا بعيدًا عن بلدي مصر في شمال إفريقيا وقلب العالم العربي والشرق الأوسط.

هذا الإعجاب ليس نابعًا من دراسات متخصصة في آسيا وجغرافيتها وتاريخها، إنما مرجعه الاهتمام بتجارب النجاح في العالم، وخاصة في بلدان الجنوب حيث لا يزال يسودها التخلف والفقر والفساد وحكم الفرد، وتنشب فيها الصراعات الداخلية والانقسامات الوطنية، وتتزايد الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

وأكثرية العالم العربي وبلدان إفريقيا هي البقعة المظلمة في عالم يتحرك تدريجيًّا نحو مزيد من الإصلاحات والتحولات السياسية والديمقراطية، والتنمية الشعبية الجادة، وبذل الجهود لتحسين مستوى العيش للشعوب.

والإعجاب بالنموذج الماليزي يتضاعف لأنه بلد أغلبيته مسلمة، دون أزمات دينية أو طائفية، وهو يتشكل من أعراق مختلفة، ومع هذا فهو مجتمع يتعايش في تناغم واستقرار بفضل تجربته الديمقراطية التي لا تقصي أحدًا، ولا تنحاز إلى أي مكوّن إثني أو ديني أو سياسي أو ثقافي فيه.

دولة بلا كراهيات أو أحقاد أو ثارات أو تطرف، إنما بوتقة ينصهر فيها الجميع لتقدم نموذجًا مشرقًا لبلد أغلبيته مسلمة ودينه الرسمي الإسلام، مما يؤكد أن المشكلة في البشر وعقلياتهم وأفهامهم وأفكارهم ورؤاهم وتعصبهم وتشددهم، وليست في الأديان والمعتقدات، أو في التنوع أو التعدد مهما كانت رقعته متسعة.

كتبت مقالًا هنا في شهر يوليو/تموز الماضي عن مهاتير محمد صانع نهضة ماليزيا الحديثة، بمناسبة بلوغه العام المئة من عمره، وهو يستحق الكتابة عنه والإشادة به لمنجزاته لصالح بلاده ووضعها في مكانة متقدمة سياسيًّا واقتصاديًّا ومعيشيًّا في آسيا والعالم.

ومع هذا فهو لم يكن الزعيم الكامل الذي بلا أخطاء، فهو بشر، والإنسان ليس ملاكًا، فهو مجبول على ارتكاب الأخطاء، ولم يظهر بعد القائد السياسي صاحب الصفحة البيضاء من غير نقطة سوداء.

وأحد أخطاء مهاتير أسهمت في صناعة الرجل الآخر التاريخي في ماليزيا، وهو أنور إبراهيم (78 عامًا) رئيس الوزراء الحالي الذي يقود البلاد منذ ثلاثة أعوام.

من يرجع إلى عام 1998، حيث نشب الخلاف بين رئيس الوزراء مهاتير ونائبه ووزير ماليته أنور إبراهيم، لم يكن يتصور أن إبراهيم سيظل على قيد الحياة السياسية، بل كان الظن أنه يموت سياسيًّا واجتماعيًّا وإنسانيًّا بعد الإطاحة به من السلطة، وبعد هول الاتهامات الموجَّهة إليه بالفساد المالي والإداري، والأصعب من ذلك تهمة “اللواط” القاسية.

وإبراهيم كان في الأصل زعيمًا طلابيًّا، حيث قاد ما يمكن تسميته جماعة إسلامية أو تنظيمًا طلابيًّا إسلاميًّا. وتخيلوا أن يكون رجل بهذه البداية في العمل العام في بلد محافظ، ومتزوج ولديه ستة أولاد، ثم يُحاكَم علنًا بتلك التهمة الشائنة التي يتضاءل أمامها أي اتهام آخر بالفساد أو غيره.

ظهور المرأة العتيدة


ومن هذا التاريخ، 1998، ومن هذا الاتهام الذي أثار استغرابًا واسعًا وميلًا كبيرًا إلى عدم التصديق أو الاقتناع به داخليًّا وخارجيًّا، ظهرت المرأة العتيدة عزيزة إسماعيل لتكتب تاريخًا خاصًّا بها، وتُثبت أن وراء كل قائد ناجح زوجة قوية عظيمة، وكانت بالفعل هي “السيدة عزيزة” زوجة أنور إبراهيم ورفيقة دربه منذ 45 عامًا.

بداية مهاتير كانت تبشيرًا ببنّاء عظيم لبلد كان هامشيًّا يعيش الفقر والتخلف، فصار بعد عقدين فقط نموذجًا في التنمية الناجحة التي اعتمدت على الأصل في أي نهضة، وهو بناء الإنسان تعليمًا وصحة وكرامة، والعدالة الاجتماعية، والتصنيع والتصدير، ومحاصرة الفساد، وحسن الإدارة. والسياق العام الذي يتحقق فيه كل ذلك هو ديمقراطية الحكم والاحتكام إلى إرادة الشعب.

في 1981، تولى مهاتير رئاسة الحكومة، وقد شكَّل الحكومات المتتابعة بناءً على فوز حزبه في الاستحقاقات المتتالية، وقاد ورشة عمل شاملة في بلاده حتى حقق كل ما كان يهدف إليه منذ اشتغل بالسياسة وانضم إلى الحكومة، واعتزل الطب مجال دراسته وعمله الأصلي.

وفي 2003، اعتزل الحكم بإرادته، وسلَّم الراية إلى جيل آخر ليواصل البناء والحفاظ على ما تم إنجازه.

ومن المصادفات الرائعة أن بلدًا آخر كان غارقًا في الأزمات والفساد والتأخر عن محيطه، بدأ تجربته النهضوية الناجحة في 2002، هو تركيا، حيث فاز حزب العدالة والتنمية بأغلبية كاسحة مما ساعده في تشكيل الحكومة منفردًا، لينطلق مثل ماليزيا في عملية تنمية شاملة في بلد إسلامي آخر، وكأن أردوغان الزعيم التركي التاريخي قد تسلَّم راية العمل والنجاح من مهاتير الزعيم الماليزي التاريخي كذلك.

تحالف الخصمين اللدودين


عقدان كاملان يواجه فيهما أنور إبراهيم محاكمات وسجونًا واستهدافًا وتعسفًا منذ أن أقاله مهاتير عام 1998 حتى استدار التاريخ، وتحالف الاثنان ليعودا إلى الحكم مجددًا في 2018 لتعديل موازين رآها مهاتير اختلت، ومواجهة فساد وجده استشرى في عهد من خلفوه.

الخصمان اللدودان اتفقا على التحالف لخوض الانتخابات، وتقاسم السلطة، وإصدار عفو نهائي عن أنور. وتحقق جانب من الاتفاق، لكن مهاتير لم يلتزم ببند تسليم الحكم إلى أنور بعد عامين، وانتهى الأمر بأزمة في تحالف الأحزاب الحاكمة انتهت باستقالة مفاجئة له في 2020.

وهنا ينتهي مهاتير سياسيًّا، لكنه لا يزال حاضرًا رمزًا، رغم فشله في الحفاظ على مقعده في البرلمان الذي جلس عليه لعقود.

عزيزة وأنور


وكانت مكافأة أنور على نضاله، وعدم استسلامه للانكسار أو قبول الهزيمة أو رفع الراية البيضاء، أن يفوز حزبه في الانتخابات العامة، ويشكل الحكومة، ويقود ماليزيا ويتحدث باسمها في المحافل الدولية. وكلمته في قمة الدوحة أخيرًا قدَّمت مطالب عملية لمواجهة إسرائيل، وهو يكافح لحل الأزمات الاقتصادية والمعيشية لشعبه رغم الاحتجاجات ضده.

كلمة السر في صمود أنور وثباته ومقاومته طوال عشرين عامًا هي زوجته عزيزة إسماعيل، التي لم تصافح الرئيس الصيني أخيرًا في قمة شنغهاي، لكنها انحنت احترامًا له.

كثيرون رأوها فقط في هذا المشهد، لكن ربما ليست لديهم خلفية عن الأهم في مسيرتها ونضالها، وهو أنها امرأة حديدية لم تخذل زوجها، ولم تخجل من اتهامات غير أخلاقية مسيَّسة موجَّهة ضده، بل ساندته ودعمته، وكانت صوته السياسي والحزبي والشخصي القوي الصارخ داخل ماليزيا وخارجها.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان