«وهم» حل الدولتين.. نبيذ قديم في أوان جديدة!

البعثة الفلسطينية في لندن خلال رفع علم فلسطين بعد اعتراف المملكة المتحدة بدولة فلسطين (غيتي)

سؤال: بمَ نبدأ لتحرير فلسطين؟ يطرح نفسه بقوة.. فهل الواجب أن نطفئ الحريق الذي يهدد البيت وأهله أولًا، أم نطلق الوعود للذين يُحرقون يوميا وتُقصف مساكنهم بالحصول على علم ونشيد، إذا كُتبت لهم النجاة من المحرقة؟

كان طوفان الاعتراف الدبلوماسي بدولة فلسطين على الأراضي المحتلة عام 1967 ليُصبح حدثا تاريخيا، لولا أنه جاء متزامنا مع قصف صهيوني مكثف على مدينة غزة، وبالتزامن مع هجمة عسكرية استيطانية في القدس المحتلة والضفة الغربية.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

وبدا قادة العالم وكأنهم مصابون بالازدواجية، فهم يعترفون بدولة فلسطينية، وفي الوقت نفسه لا يفرضون العقوبات لإجبار إسرائيل على وقف حرب الإبادة التي قُتل فيها حوالي 70 ألف فلسطيني، بل ويدينون المقاومة ويطالبون بنزع سلاحها، كما جاء في إعلان نيويورك الذي اعتمدته 142 دولة.

ولم تخلُ الصحف الغربية من انتقادات لهذا النفاق السياسي، وكتبت زينايدا ميلر، أستاذة القانون والشؤون الدولية، مقالا في جريدة «نيويورك تايمز» جاء فيه: «إلى أن يؤدي الاعتراف بدولة إلى اتخاذ إجراءات، حظر الأسلحة والعقوبات وإنفاذ القانون الدولي، فإنه سيظل وعدا فارغا في معظمه، يهدف بالأساس إلى صرف الانتباه عن التواطؤ الغربي في تدمير غزة».

ولكن النائبة بالكنيست عن الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، عايدة توما سليمان، تشير في مقالة لها على موقع مجلة «جاكوبين» اليسارية إلى أهمية السياق الذي وُلد فيه الاعتراف: «دون التضامن العالمي الشعبي غير المسبوق، لم تكن هذه الخطوة ممكنة»، مشيرة إلى أن هذا الحشد الدبلوماسي «يعد أحد سبل تعزيز إجماع عالمي ضد مشروع إسرائيل الكبرى».

وتشير «الإندبندنت» إلى أن طوفان الاعتراف، رغم رمزيته، يمنح مناضلي حركة التضامن مع فلسطين الثقة في استكمال نضالهم.

ويعترف -حاليا- بفلسطين كدولة نحو 82% من الدول الأعضاء بالأمم المتحدة، البالغ عددها 193 دولة، ولكنها دولة ليس لها حدود أو عاصمة أو جيش متفق عليه دوليا، وترفضها الأطراف الأقوى، إسرائيل وأمريكا، ما يجعل الاعتراف «رمزيا» إلى حد كبير.

وفي تحدٍ للعالم، أصدرت دولة الاحتلال مؤخرا أوامر هدم وإخلاء لمنشآت سكنية وزراعية في منطقة العيزرية، لربط طريق «نسيج الحياة» بالمشروع المعروف باسم «E1»، الذي سيؤدي إلى عزل القدس عن الضفة الغربية وقطع الاتصال الجغرافي بينهما.

وهذا الربط يعني عمليا استحالة إقامة دولة فلسطينية متواصلة جغرافيا على هذه الأراضي، إذ سيصبح من المستحيل على أي فلسطيني الانتقال بين شمال الضفة الغربية وجنوبها إلا عبر بوابات إسرائيلية.

راديكالية حركة التضامن

ويسير العالم على مسارين متوازيين: من جهة، موجة تضامن شعبي مع القضية الفلسطينية وضد الإبادة الجماعية، ومن جهة أخرى وحشية صهيونية غير مسبوقة بدعم أمريكي غير مشروط.

وهذه الموجة من التضامن غير المسبوقة تتجسد في 50 مركبا تحمل مناضلين من 45 دولة، يتجهون في مشهد تاريخي صوب غزة لكسر الحصار.

وظهرت قوة الحركة كذلك عندما شلّ إضراب عمال حركة النقل والمواصلات إيطاليا، تضامنا مع غزة.

ونقلت مجلة «العامل الاشتراكي» عن «ريكي» من تجمع عمال الموانئ المستقلين قوله: «يواصل الشعب الفلسطيني إعطاءنا درسا جديدا في الكرامة والمقاومة. نتعلم منهم ونسعى جاهدين للقيام بدورنا».

وعلى مستوى الهيمنة الأيديولوجية، لم يعد حل الدولتين حلا مقبولا بين قطاع واسع من النشطاء المؤيدين لفلسطين، إذ إنه يعترف بشرعية الزعم الصهيوني أن يهود العالم يمتلكون حقوقا في دولة أخرى.

وهذا التطور، كما تقول مجلة «العلم الأحمر» الأسترالية، يعدّ إنجازا مهما، فهو يوفر أساسا متينا لبناء حركة يمكنها المطالبة بتحرير حقيقي للشعب الفلسطيني.

واعتبر إيلان بابيه، المؤرخ الإسرائيلي البارز، في محاضرة ألقاها العام الماضي: «إن التدمير الوحشي لغزة إنما يُسلط الضوء على فشل المشروع الاستعماري الصهيوني الآخذ بالتصدع والذي سوف يُسفر عن سقوطه».

فيما رأى المخرج اليهودي التقدمي إيال سيفان أنه «حان الوقت لكسر فكرة الدولتين»، مشيرا إلى أن السلطة الإسرائيلية لا تشكل اليوم خطرا على الفلسطينيين وعلى الشرق الأوسط فحسب، وإنما تشكل أيضا خطرا على اليهود أنفسهم.

هذا المستوى من التجذير أرعب الحكومات، التي تخشى أن تتحول هذه الانتفاضة إلى حراك ضدها هي بالذات، و«حماس» ما زالت صامدة، ودولة الاحتلال تهدد بإشعال المنطقة، وبالتالي كان لا بد من التدخل السريع لاحتواء الموقف.

ويرى أنطوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي السابق، عبر جريدة «وول ستريت جورنال» الأمريكية أن إسرائيل لن تقبل بدولة فلسطينية يحكمها إرهابيون، أو دولة مسلحة مرتبطة بإيران، أو دولة تحرّض ضد إسرائيل.

ومنحت الحكومات الغربية قبلة الحياة للسلطة الفلسطينية بوصفها الوجه المقبول والمعتدل، رغم أنها موصومة فلسطينيا بالتنسيق الأمني مع دولة الاحتلال ومطاردة المقاومين، وتحولت إلى ما يشبه خيال المآتة.

نبيذ قديم في أوان جديدة

غير أن هذه المحاولة الجديدة لإزاحة التراب عن قرارات الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين، تصطدم بوقائع التاريخ وموازين القوى، فلم تنوِ إسرائيل يوما، حتى قبل صعود الفاشيين للحكم، القبول بدولة فلسطينية. حيث قال ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل: «وجود دولة يهودية على جزء من الأرض ما هو إلا البداية».

ففي الواقع، ترجع الخطط الإسرائيلية لاحتلال الضفة الغربية واستيطانها إلى ما قبل عام 1967.

بينما حلم إسحاق رابين، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق: «أحلم بأن أستيقظ ذات يوم وأرى أن البحر ابتلع غزة». هذا الحلم يتقاسمه الإسرائيليون بأن الفلسطينيين سوف يختفون ومصيرهم لا يهمهم.

فيما استمرت عمليات الاستيطان بالضفة الغربية في السنوات التي تلت توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، وتخلت القيادة الفلسطينية بقيادة «فتح» عن أنواع الحقوق جميعها مقابل وهم دويلة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة، ولكنها لم تحصد سوى العلقم.

أما اليمين الصهيوني المتطرف الحاكم حاليا فيدعو صراحة إلى ضم الضفة الغربية وتقويض سلطة «أبو مازن»، ويتبنى سياسة التهجير.

لا حلول وسط

كان المشروع الصهيوني ولا يزال سبب معاناة الملايين، بين قتل وتهجير وفصل عنصري واحتلال واستعمار استيطاني على أرض فلسطين، هذا بالإضافة إلى دوره الوظيفي في خدمة الإمبريالية.

في كتابه «معذبو الأرض»، يصف المفكر الفرنسي فرانز فانون الاستعمار الاستيطاني بأنه ليس مجرد نظام هيمنة سياسية أو اقتصادية، بل هو مشروع إبادي شامل يستهدف اقتلاع الهوية الثقافية والجغرافية للسكان الأصليين، واستبدالها بهوية المستوطن الغازي، وهو ما ينطبق تماما مع الحالة الفلسطينية.

المشروع الصهيوني، وفق المفكر السوري سلامة كيلة، ليس فقط استعمارا إحلاليا، بل هو جزء لا يتجزأ من النظام الرأسمالي الإمبريالي الذي يدعم ويعزز هيمنته من خلال السرديات القومية والدينية والقوة العسكرية المدعومة من الغرب.

كيلة يضيف بُعدا حاسما لتحليل الصهيونية، حيث يرى أن النضال ضد المشروع الصهيوني لا يمكن عزله عن النضال ضد النظام الإمبريالي العالمي.

وبعيدا عن وهم حل الدولتين، الذي يكرس وجود الكيان الصهيوني على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، ينبغي أن يكون وقف حرب الإبادة هو الأولوية الأولى لأحرار العالم، عبر الضغط على الأنظمة الغربية والعربية والإسلامية لفرض عقوبات على إسرائيل، وتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية، مع التمسك بالثوابت الثلاث: «التحرير»، و«العودة»، وبناء «دولة فلسطين الديمقراطية من النهر إلى البحر».

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان