نهوض كازاخستان الهادئ.. آفاق جديدة للاستثمار القوي

في ظل تفاقم الاختلالات في الاقتصاد العالمي اليوم، أصبح البحث عن الاستقرار أمرًا بالغ الأهمية، ومع تزايد الحواجز التجارية، وتفكك سلاسل الإمداد، وإعادة تشكيل التوترات الجيوسياسية للتحالفات العالمية، أصبحت الأسواق التي كانت في يوم من الأيام تبدو آمنة أكثر عرضة للاضطراب.
وحذرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) من تباطؤ النمو العالمي إلى 3.1% فقط في عام 2025، في حين يبقى التضخم مرتفعًا – مدفوعًا بالتغيرات المناخية، وتقلبات الطاقة، والقيود الحالية على التجارة.
وبالنسبة للمستثمرين العالميين، التحدي لا يكمن فقط في السعي وراء العوائد، بل في تحديد الأسواق التي تقدم الاستقرار والقيمة الاستراتيجية طويلة المدى.
ومع مرور الوقت، أصبح الجواب أكثر وضوحًا: لا تكمن الإجابة في المراكز المالية التقليدية، بل في الأسواق الناشئة التي هيأت نفسها بخطى ثابتة ومدروسة للحفاظ على مكانتها على المدى الطويل، وتعد كازاخستان واحدة من هذه البلدان.
مكانة تتعزز تدريجيا
في حين تكافح الاقتصادات المتقدمة مع الديون وعدم الاستقرار السياسي، عززت كازاخستان تدريجيًا مكانتها كمحور تجاري واستثماري في منطقة أوراسيا.
بفضل موقعها الاستراتيجي بين الصين وروسيا، وعلى طول طريق الحرير، تحولت كازاخستان بسرعة إلى بوابة موثوقة للتجارة الإقليمية، وقد جعلتها بنيتها التحتية الحديثة، والإصلاحات التي تركز على جذب المستثمرين، وجهود تنويع الاقتصاد، واحدة من أكثر الوجهات جذبًا للاستثمار في آسيا الوسطى.
في عام 2024 وحده، نجحت كازاخستان في تأمين مشاريع استثمارية جديدة بقيمة 15.7 مليار دولار أمريكي، أي بزيادة قدرها 88% مقارنة بالعام السابق، مما يشكل دلالة واضحة على أن جاذبيتها تتوسع بوتيرة متسارعة وعلى نطاق واسع.
إصلاحات مدروسة
صعود كازاخستان كمركز استثماري ليس أمرًا عرضيًا، بل هو مبني على أساس من الإصلاحات المدروسة والموجهة نحو المستقبل.
ومن أبرز هذه الإصلاحات “مفهوم سياسة الاستثمار حتى عام 2029″، الذي يهدف إلى إزالة الروتين الإداري، وضمان المعاملة المتساوية للمستثمرين الأجانب، وإعطاء الأولوية للقطاعات ذات الإمكانيات العالية مثل التصنيع المتقدم، والزراعة، والطاقة الخضراء.
لكن هذه الإصلاحات ليست مجرد طموحات، بل تُنفذ بانضباط وهدف واضح. المنصة الوطنية الرقمية للاستثمار هي من أبرز الأمثلة على ذلك، فهي عبارة عن نظام يعمل بكامل طاقته ويعزز الشفافية ويبسّط التعاون بين المستثمرين والجهات الحكومية، وبدلًا من أن تكون عائقًا بيروقراطيًا، تعمل هذه المنصة كوسيط فعّال يُمكّن من تسريع القرارات الاستثمارية ويعزز المساءلة.
ويقول نائب وزير الخارجية في كازاخستان على بيك كوانتيروف إن استراتيجية البلاد الاستثمارية “مبنية على قابلية التنبؤ والشفافية. نحن لا نخلق الفرص فحسب، بل نهيئ الظروف المؤاتية لشراكات طويلة الأمد ومُثمرة للطرفين”.
وبدأت الشركات العالمية الكبرى بالفعل في جني ثمار هذه الإصلاحات. على سبيل المثال، استثمرت شركة بيبسيكو 160 مليون دولار لتعزيز سلسلة القيمة الزراعية في كازاخستان من خلال شراء البطاطس من مصادر محلية وتدريب المزارعين على الممارسات المستدامة.
جذب الاستثمارات
وفي الوقت نفسه، قررت شركة كيا استثمار 250 مليون دولار في بناء مصنع جديد خارج كوريا الجنوبية، هذه المرة في كازاخستان، لتوسيع بصمتها الإنتاجية واستغلال قدرات الصناعة المتنامية في المنطقة. هذه ليست مجرد استثمارات في كازاخستان، إنها رهانات على استقرار البلاد على المدى الطويل وإمكاناتها المستقبلية.
وتعكس هذه الثقة من الشركات العالمية اتجاهًا طويلًا، فمنذ عام 1993، جذبت كازاخستان 441 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، مع مساهمات كبيرة من هولندا والولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة وسويسرا وغيرها.
كما أن الاهتمام الدولي يتزايد، فقد زادت دول مثل قطر، والصين، وتركيا، وأستراليا، وألمانيا بشكل كبير من استثماراتها في قطاعات البنية التحتية والطاقة واللوجستيات في كازاخستان خلال عام 2024.
طاقة أكثر استدامة
وما يميز كازاخستان حقًا هو توافقها مع الأولويات الاقتصادية والبيئية العالمية. مع احتياطياتها الغنية من العناصر الأرضية النادرة وقطاع البتروكيماويات المتنامي، فإن البلاد في وضع استراتيجي لدعم التحول الأخضر العالمي.
من خلال شراكات الطاقة النظيفة مع الاتحاد الأوروبي، تساعد كازاخستان في بناء أسس مستقبل طاقة أكثر استدامة وأمانًا، وتشير مشاريع البناء المستمرة بقيمة تزيد عن 10 مليارات دولار -بما في ذلك ممرات لوجستية، ومزارع شمسية، ومنشآت ريحية- إلى طموح البلاد في أن تكون مركزًا حيويًا للتجارة والطاقة بين الشرق والغرب.
من الأهمية بمكان أن يكون التحول في كازاخستان مؤسسيًا كما هو اقتصادي. أصبحت الحوافز الحكومية الآن مرتبطة بشكل مباشر بخلق الوظائف، وتطوير المهارات، ونقل التكنولوجيا، والاستدامة البيئية، وهذا يضمن أن يكون النمو ليس فقط قويًا، بل شاملًا وموجهًا نحو المستقبل.
“تواصل العقول ورسم ملامح المستقبل”
هذا الالتزام بالاندماج العالمي والانفتاح سيكون في صلب منتدى أستانا الدولي المرتقب، المقرر عقده في 29-30 مايو/أيار تحت شعار “تواصل العقول، ورسم ملامح المستقبل”.
وسيجمع المنتدى رؤساء دول ووزراء ورؤساء تنفيذيين وصناع السياسات وقادة من المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية لمناقشة التحديات العالمية الأكثر إلحاحًا من التنمية المستدامة إلى التعاون الاستثماري.
ولا يعد المنتدى مجرد تجمع رمزي، بل يمثل رؤية كازاخستان لمستقبل أكثر ترابطًا وشفافية وغني بالفرص، وقال نائب وزير الخارجية على بيك كوانتيروف إن “منتدى أستانا الدولي يعكس طموح كازاخستان في أن تكون جسرًا بين المناطق والقطاعات والأفكار. نحن نؤمن بالحوار والانفتاح والحلول المشتركة للتحديات العالمية”.
وفي عصر من الاضطرابات الاقتصادية والتحالفات المتغيرة، تقدم كازاخستان بديلًا جذابًا: سوقًا مبنيةً على الوضوح الاستراتيجي، والاتساق في السياسات، ونهج استثماري استباقي قائم على الشراكة. بالنسبة للشركات والمستثمرين العالميين الذين يبحثون عن آفاق جديدة للنمو المستقر والمستدام، لم تعد كازاخستان مجرد قصة واعدة، بل باتت تمثّل فرصة يجب اغتنامها الآن.