وفاء زيدان تكتب: الانعزالية الباكستانية .. إرث جغرافي ومغولي

إننا مقصرون كعرب في كسب باكستان إلى صفنا وعلينا الاستثمار الحثيث في علاقتنا معها لكن على باكستان بالمقابل أن تنظر إلى تركيا وتتعلم من تجربتها في العالم العربي. يتبع

تحكي كتب التاريخ عن حضارة انبثقت على ضفاف نهر أندوس في جنوب آسيا  في العصر “البرونزي” تزامنا مع خروج حضارتين أخرين واحدة على ضفاف نهري دجلة والفرات في بلاد الرافدين والأخرى على ضفاف نهر النيل في مصر.

لم يكتف نهر من تلك الأنهار بأن يبعث الحياة في الأرض التي جرى عليها بل ظل يحاكي تاريخها وجغرافيتها حتى رسم طريقها عبر التاريخ ولا زال يرسم تاريخها حتى اليوم.

ولابد أننا على معرفة ولو كانت بسيطة بتأثير الأنهار في منطقتنا -الشرق الأوسط- لكن ما قد يجهله البعض هو تأثير نهر أندوس في تشكيل حضارة شبه القارة وتحديدا باكستان اليوم.

يقطع نهر أندوس قلب باكستان و تتشعب منه خمسة أنهار أخرى هي البيس، شيناب، جيهلم، رافي وسوتليج  لتنداح  في إقليم عرف باسم “بنجاب” بمعنى ” الأنهار الخمسة” ليكون بذلك مسرح الأحداث التاريخية في شبه القارة الهندية إذ يقول الباحث الجيوسياسي روبرت كابلان إن باكستان شكلت عبر التاريخ “مفترق الطريق” بين وسط آسيا والهند، فهنا شهد التاريخ تقدم الغزنويين والمغول والبريطانيين للسيطرة على المنطقة كما قامت هنا حرب الانفصال عن الهند وحرب باكستان والهند الدموية في 1971،  أسفرت تلك الاحتكاكات عبر التاريخ عن تكوين هوية باكستان اليوم ولسانها ومزاجها وميولها السياسية والثقافية المرتبطة بالهند ووسط آسيا حصرا، فلا عجب أن تندمج باكستان في محيطها الجغرافي أكثر من أن تتفاعل مع جيرانها في العالم العربي اليوم.

ولقد جاء الحكم المغولي الممتد من أوائل القرن السادس عشر حتى فجر القرن الثامن عشر ليزيد من انعزال أرض نهر اندوس أو البنجاب عن العالم العربي ويربطها أكثر بالهند ووسط آسيا وذلك لأسباب شتى منها ثقافة المغول وبوصلة فتوحاتهم العسكرية واللغة ونفوذ النساء في الدولة.

فلقد جلب المغول معهم ثقافات شرق أوسطية وفارسية ممزوجة بنكهة إسلامية جسدت ببنائهم المعماري وأكلاتهم وموسيقاهم وحتى ثيابهم فحصروا احتكاكهم مع شعب الهند وفارس ووسط أسيا بينما انعزلوا عن العالم العربي والدولة العثمانية .

أورنكزيب عالم كير، آخر أباطرة المغول في الهند

أما وجهة الجيش المغولي للتوسع فكانت إما شمالا نحو أفغانستان أو جنوبا نحو الهند فنأت الإمبراطورية بنفسها عن العالم العربي بينما كانت المراسلات بين الدولة المغولية والعثمانية قليلة جدا وباردة حيث يحكى أن السلطان سليمان القانون عندما أرسل لأورانغزيب عالمغير في 1688 رسالة ينشده فيها أن يرسل له امدادات ليساعده في حربه ضد الهابسبورغ  لم يستطع الأخير بسبب انشغاله في حروبه في جنوب الهند في منطقة “ديكان”.

لكن العسكر المغولي كان له تأثير أبعد من ذلك في مستقبل أرض الأندوس فمن قلب الخيم العسكرية المعروفة باسم “هورد” بالتركية والفارسية اشتقت كلمة “أوردو” لتصبح اسم اللغة الرسيمة لباكستان اليوم والتي نتج عبر احتكاك الجنود الترك والفرس والهنود في المعسكرات المغولية، ومن العجيب أن استطاعت تلك اللغة توحيد لسان مئات الأعراق والأجناس في شبه القارة الهندية دون أن يتخلوا عن لغاتهم الأم حتى إننا اليوم نرى الأفلام البوليوودية الهندية تصدر باللغة الأوردية حتى تصل لأكبر عدد ممكن من المشاهدين.

بذلك استطاعت اللغة أيضا أن تعمق تعلق شعب الأندوس وارتباطه بشبه القارة ووسط آسيا وبلاد فارس على حساب البلاد العربية ومع أن ضياء الحق، رئيس باكستان لاحقا حاول أثناء الحرب في أفغانستان أن يفرض تعليم اللغة العربية مع الأوردية في المدارس فإن هذه الجهود سرعان ما تبددت كما فشلت أيام مؤسس باكستان محمد علي جناح  فلا يمكن لجهد عقد أو أكثر أن يمحو ما وطدته قرون.

أما النساء في البلاط المغولي فيعتبرن سببا رئيسيا في تشكيل توجه الإمبراطورية السياسي والثقافي فلقد تزوج الكثير من أباطرة المغول نساءا فارسيات كالإمبراطور هومايون وجهانغير وشاه جهان مما زاد التوغل الفارسي في البلاط المغولي فعرف عنهن أنهن يتمتعن بشخصية قوية فتحكمن عن قرب أو بعد بأمور الدولة وكانت الدولة الصفوية ترسل نساء فارسيات باستمرار كهدايا للأباطرة المغول.

وحتى في باكستان اليوم فهناك تزاوج بين العديد من الرجال المتنفذين في الدولة من نساء فارسيات فقد تزوج رئيس باكستان السابق ذوالفقار علي بوتو بنصرة بوتو الفارسية ولقد حصلت بيناظير بوتو المرأة الأكثر تأثيرا في السياسات الباكتسانية على جنسية إيرانية، وهذا إسكندر ميرزا رئيس باكستان السابق تزوج بالبيجوم ناهيك الإيرانية وفضل أن يدفن في طهران، أضف إلى ذلك أن الأباطرة المغول كانوا يستنجدون بالدولة الصفوية كلما هدد عرشهم  فكانت ملاذهم الأول والأخير.

لكن البلاط الصفوي لم يكتف بتقديم الملاذ وإرسال النساء للأباطرة المغوليين فحسب بل عمل على إغراق الإمبراطورية المغولية بالمخدرات التي كانوا يستهلكونها بكثرة خصوصا مخدر “وانغ” الذي يتغنى به الهنود حتى اليوم بأغانيهم.

دفع ذلك الإمبراطور المغولي أورانغزيب -رحمه الله-  إلى السعي نحو التعافي من هذا الإرث عبر مواقفه المتشددة من الدولة الصفوية والمذهب الشيعي وبتعزيز المذهب الحنفي في إمبراطوريته بعد أن سعى الكثير من أباطرة المغول إلى تلفيق الدين الإسلامي بإدخال طقوس وأفكار هندوسية إليه كما فعل الإمبراطور أكبر وهو ما دفع مسلمي المنطقة لتسميته “دين أكبر”.

كل تلك الأسباب أدت إلى انعزال الإمبراطورية المغولية عن العالم العربي كما فعلت الجغرافيا وها هي باكستان ترث ذلك الانعزال فنجدها عضوا في  شانغهاي أو رابطة جنوب آسيا “اسيان” أما ارتباطها بالعالم العربي فمضمحل باستثناء منظمة التعاون الإسلامي وربما تجلى ذلك عمليا عندما رفضت باكستان أن تشارك في عاصفة الحزم بجانب السعودية رغم كل العلاقات بينهما.

لاشك فإننا مقصرون كعرب في كسب باكستان إلى صفنا وعلينا الاستثمار الحثيث في علاقتنا مع باكستان لكن على باكستان بالمقابل أن تنظر إلى تركيا وتتعلم من تجربتها في العالم العربي  فقد حاولت تركيا على مدى سبعة عقود منذ قيام الجمهورية التركية على أنقاض الخلافة العثمانية أن تصبح جزءا من أوروبا  لكن تم لفظها أوروبيا فتحولت شرقا إلى العالم العربي فتسيدته فهل تتعلم باكستان الدرس التركي أم أنها ستظل حبيسة الغيتو الذي فرض عليها و رضيت به.

وفاء زيدان
صحفية سورية مقيمة بباكستان

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها