هل سيصل العالم إلى مناعة القطيع للسيطرة على فيروس كورونا؟

منذ تفشي فيروس كورونا “كوفيد-19″، قامت الشركات بالتعجيل في إنتاج اللقاحات، وكذلك قامت حكومات الدول الغنية بالتعاقد مع الشركات منذ البداية في التجارب السريرية، وشراء جرعات من اللقاح من شركات مختلفة تفوق حاجتها بأضعاف مضاعفة، وبعد مرور عام على توزيع اللقاح، يرد السؤال: أين وصل العالم من مناعة القطيع للسيطرة على الفيروس؟ وما هي مناعة القطيع؟ وكيف يتم الوصول إليها للسيطرة على الفيروس؟ وهل الاستراتيجيات المتبعة حاليا ستوصل العالم الى مناعية قطيع؟

ما هي مناعة القطيع؟ وكيف يتم الوصول إليها؟

تتحقق مناعة القطيع عندما تتكون مناعة عند عدد كبير من الناس ضد مرض معين، وعند توفر المناعة الكافية تتم حماية المجتمع والسيطرة على المرض، وتختلف تقديرات العلماء حول نسبة السكان اللازمة للوصول الى مناعة قطيع، ولكن تتراوح النسبة ما بين 70 الى 90 في المئة من الناس، وتزيد هذه النسبة كلما زادت سرعة انتشار المرض والعدوى بين الناس.

ويتم الوصول إلى مناعة القطيع في أي مجتمع بطريقتين، إما بعد الاصابة بالعدوى “العدوى الطبيعية” وذلك عند إصابة وتعافي عدد كبير من الناس من المرض، حيث يتم تكوين أجسام مضادة تحمي من الإصابة بالعدوى في المستقبل، أو الطريقة الأخرى عبر اللقاحات، وذلك عندما يتلقى عدد كبير بنسبة كبيرة من اللقاح الفعال الذي تزيد فعاليته عن 75 في المئة على الأقل، وبالتالي تكوين أجسام مضادة واقية من العدوى في المستقبل. وفي تلك الحالتين لا بد من تكوين مناعة على الأقل عند 70 في المئة من الناس لتكوين مناعة قطيع، سواء أكانت المناعة التي تحققت عبر العدوى الطبيعية أو التي تحققت عبر اللقاحات.

يتم حاليا توجيه الجهود والخطط والاستراتيجيات للوصول إلى مناعة قطيع عبر اللقاحات، ولكن هنالك عقبات قد تحول دون وصول العالم إلى مناعة قطيع، فما هي هذه العقبات؟ وهل الاستراتيجية المتبعة حاليا ستوصل العالم الى مناعة قطيع؟

1- الفجوة العالمية في توزيع اللقاح: هنالك فجوة عالمية في توزيع اللقاح المنتج في دول لعالم بسبب قيام الدول المصنفة بالدول الغنية بشراء كميات لقاح تزيد عن حاجتها بأضعاف مضاعفة، وعدم قدرة الدول المصنفة بالدول الفقيرة بشراء كميات أو التعاقد مع الشركات المنتجة، وبالتالي حصلت فجوة عالمية في توزيع اللقاحات بين الدول بناء على تصنيف الدول حسب مستوى الدخل.

فمثلا تشكل نسبة السكان في الدول الغنية ما يقارب 16 في المئة من سكان العالم، ولكن قامت هذه الدول بشراء ما يقارب 53 في المئة من أول كمية لقاح تم إنتاجه من الشركات، بينما حصلت الدول الفقيرة على أقل من 6 في المئة من كمية اللقاح المنتج، وبشكل عام احتفظت الدول التي تمثل سُبع سكان العالم، بأكثر من نصف اللقاحات المتاحة بحلول يونيو 2021. وفي أحد الدراسات في جامعة نورث إيسترن الأمريكية، حيث قام بعض العلماء بدراسة استراتيجيتين في قضية التوزيع العادل للقاح، وتوصلوا إلى أن 61 في المئة من الوفيات في جميع أنحاء العالم كان من الممكن تجنبها إذا تعاونت البلدان على تنفيذ خطة لقاحات عادلة، في المقابل كان من الممكن تجنب فقط 33 في المئة من الوفيات إذا حصلت البلدان الغنية على اللقاحات أولا.

لذلك قامت الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا بتقديم طلبات لتخفيف القيود على الملكية الفكرية، وبالتالي تقوم هذه الدول بإنتاج كمية لقاح لتغطي عدد السكان في هذه الدول، ولكن قوبلت هذه الطلبات بالرفض التام من قبل الشركات والدول المصنعة، لأن ذلك يقلل من الربح المادي لهذه الشركات.

2- تلاشي فعالية اللقاح مع الوقت: تتلاشى فعالية اللقاحات مع الوقت، حيث إن معظم اللقاحات توفر مناعة في جسم الإنسان لمدة 6 شهور، وذلك بسبب انخفاض نسبة المضادات التي توفرها اللقاحات في جسم الإنسان وبالتالي تقل الفعالية. فعلى سبيل المثال حسب دراسات حديثة تم نشرها في مجلة “نيو إنغلاند الطبية” تبين في الدراسة الأولى أن الفعالية و الحماية التي يوفرها لقاح فايزر في هذه الدراسة بأنها تنخفض تدريجيا لتصل إلى 20 في المئة بعد الشهر الخامس إلى السابع من أخذ الجرعة الثانية من لقاح فايزر، وكذلك في دراسة أخرى تم نشرها في نفس المجلة للكشف عن نسبة المضادات الموجودة في الجسم بعد لقاح فايزر، حيث وجدوا أن نسبة المضادات في الدم كانت ثابتة لمدة 6 أشهر بعد الجرعة الثانية من لقاح فايزر، لذلك قامت شركة فايزر بإعطاء جرعات تعزيزية بعد 6 أشهر من الجرعة الثانية.

وفي دراسة حديثة تم نشرها في مجلة لانسيت العلمية، حيث انخفضت فعالية لقاح فايزر إلى 47 في المئة بعد ستة أشهر من الجرعة الثانية. لذلك تلاشت فعالية اللقاح و الحماية التي يوفرها اللقاح مع الوقت، حيث في ظل وجود فجوات تلقيح بين الدول الغنية والدول الفقيرة، ومع تلاشي فعالية اللقاح بعد ما يقارب 6 أشهر، و بالتالي الحاجة إلى جرعات تعزيزية بعد مرور هذه المدة، وهذه الفجوة تتسع باستمرار، حيث بناء على هذه المعطيات تتوفر مناعة القطيع في المجتمع في حالة حدوث مناعة خلال فترة 6 أشهر في نسبة كبيرة من سكان العالم تزيد عن 70 في المئة، و حتى يحصل ذلك لا بد من أن تقوم كل الدول بالتصنيع الذاتي و الإنتاج الذاتي لحاجتها، و لكن ذلك يستحيل في ظل قيوم الملكية الفكرية و ظل الفجوة في توزيع اللقاحات.

3- متحورات كورونا: المتحور هو فيروس طرأت عليه طفرة أدت اإى اختلافه عن الفيروس الأصلي في بعض الصفات، والطفرات ظاهرة طبيعية في الفيروسات بشكل عام، فلدينا آلاف من متحورات فيروس كورونا حاليا، وذلك أمر طبيعي، وكلما زادت عدد الطفرات في المتحور كلما زادت احتمالية تغير صفات الفيروس المتحور. وأغلب المتحورات تؤدي إلى إضعاف الفيروس، ولكن نسبة قليلة جدا تؤدي إلى تقويته، حيث يمكن أن تزيد من سرعة انتشار وانتقال المتحور من شخص لآخر وبالتالي زيادة العدوى، أو أن تزيد من حدة وشدة المرض وبالتالي زيادة دخول المستشفيات و الوفيات، أو كلاهما معا.

وظهور المتحورات بشكل عام يشكل عقبة كبيرة في أزمة كورونا، من حيث الحاجة إلى تصنيع أجهزة فحص جديدة للكشف عن المتحور و تشخيصه، والمشكلة الأساسية هي فاعلية اللقاحات ضد المتحورات، حيث إن اللقاحات مصنعة بناءً على تركيبة جينية معينة للفيروس الأصلي، لذلك عند حدوث متحورات قد تقل فعالية اللقاح ضد المتحورات و بالتالي قد يكون هناك حاجة لإعادة تصنيع اللقاحات بناء على المتحور، فمثلا متحور دلتا أدى إلى زيادة انتشار العدوى بما يقارب 3 أضعاف الفيروس الأصلي، وكذلك أدى إلى انخفاض فعالية اللقاحات، إذ توصلت دراسة حديثة تم نشرها في مجلة لانسيت العلمية إلى أن فعالية لقاح فايزر انخفضت إلى 53 في المئة بعد أربعة أشهر، بينما كانت 93 في المئة بعد الشهر الأول من أخذ اللقاح، و كذلك انخفضت الفعالية إلى 67 في المئة في مواجهة متحورات أخرى. لذلك مع انخفاض فعالية اللقاحات تجاه المتحور دلتا، قامت جمعية الأمراض المعدية الأمريكية برفع عتبة مناعة القطيع لتطعيم أكثر من 80 في المئة أو حتى 90 في المئة من سكان العالم بدلا من 70 في المئة قبل ظهور المتحورات، أي للوصول إلى مناعة قطيع تزداد النسبة المراد تلقيحها في ظل وجود متحورات تقلل من فعالية اللقاح.

وبالنسبة للمتحور الجديد أوميكرون، حيث يختلف عن المتحورات الأخرى بوجود عدد كبير من الطفرات الجينية، ولكن لا يوجد أدلة علمية حتى هذه اللحظة عن مدى سرعة انتشاره ومدى حدة تأثيره على جسم الإنسان وكذلك مدة فعالية اللقاحات عليه، وهذا ما ستكشفه الأيام القادمة.

4-  التردد في أخذ اللقاح: هناك نسبة لا يستهان بها في العالم ترددت في أخذ اللقاحات، والتردد في أخذ اللقاح عالميا له أسباب كثيرة، منها أسباب علمية، حيث تم تصنيع اللقاحات خلال عدة أشهر، وكذلك ازدواجية المعايير التي حصلت خلال جائحة كورونا، حيث قامت حكومات عديدة باتخاذ قرارات متناقضة علميا في طرق الوقاية من الفيروس وذلك استغلالا للأزمة، فأدى ذلك إلى تشكك الناس وعدم الثقة في الحكومات والنظام الصحي العالمي. وفي استبيان حديث، تمت فيه مشاركة 12 مليون فرد من بين 115 دولة في العالم للكشف عن أسباب رفض اللقاح، حيث تم تحليل البيانات من قبل مركز جون هوبكن، حسب نتائج الاستبيان فإن الأسباب الرئيسية وراء نسبة الرفض العالية هي بسبب الخوف من الأعراض الجانبية، وعدم الثقة في فاعلية اللقاح للسيطرة والقضاء على المرض.

5-عدم وضع خطط و استراتيجيات للكشف عن توفر المناعة عبر العدوى الطبيعية: حيث كما ذكرت في بداية المقال تتشكل مناعة القطيع إما بالعدوى الطبيعية أو عبر اللقاحات، لكن الاستراتيجية المتبعة حاليا، تستخدم نسبة من تلقى اللقاح للوصول إى مناعة القطيع، ولا يوجد استراتيجية دولية للكشف عن المناعة ونسبها عبر العدوى الطبيعية، حيث في ظل وجود فجوة لقاحات بين الدول الغنية و الفقيرة، و كذلك انتشار للفيروس بعد مرور عامين منذ اكتشافه، و كذلك ما يقارب 50 في المئة من الإصابات لا يوجد عندهم أعراض أو ربما أعراض بسيطة، لذلك في الدول ذات نسب التطعيم القليلة، قد تكون هناك نسبة معينة توفرت لديها مناعة عبر العدوى الطبيعية، و معرفة هذه النسبة في كل الدول تساعد في معرفة مدى وصول المجتمعات إلى مناعة قطيع، مع الأخذ بعين الاعتبار نسبة من تلقى اللقاح و كذلك نسبة من توفر لديه مناعة طبيعية عبر العدوى و خاصة في الدول ذات التطعيم بنسبة قليلة، و كذلك تساعد في قضية التوزيع العادل للتطعيم، لكن مثل هذه الاستراتيجيات قد تتناقض نتائجها مع المنفعة المادية للشركات وتقلل من كمية استهلاك اللقاحات في العالم، لذلك الاحتكام إلى المنفعة المادية يشكل عقبة كبيرة في القرارات المتبعة لدراسة مدى التوصل الى مناعة قطيع في الدول.

وفي الختام:

نستنتج من ذلك صعوبة أو استحالة توصل العالم إلى مناعة قطيع في ظل الجشع الرأسمالي الذي يقدم الحل للأزمة من حيث القيود على الملكية الفكرية وبالتالي حصر التصنيع والإنتاج واحتكاره، وكذلك وجود فجوة عالمية في توزيع اللقاحات، وبالإضافة إلى ذلك تلاشي فعالية اللقاحات مع الوقت، وكذلك انخفاض فعالية اللقاح في مواجهة المتحورات، وبالإضافة إلى عدم وجود سياسات واستراتيجية للكشف عن وجود مناعة عبر العدوى الطبيعية، كل هذه العوامل تحول دون وصول العالم إلى مناعة قطيع للسيطرة على الفيروس.

لذلك فإن البشرية جمعاء بحاجة ماسة إلى نظام بديل يوفر الرعاية للناس، و يرعى الإنسان من حيث هو إنسان، ويكون هو محور الاهتمام و ليس المنفعة المادية أو أرباح الشركات، و يزيل هذا النظام قيود الملكية الفكرية، لذلك النظام البديل والوحيد الكفيل لحل مثل هذه الأزمة هو النظام الإسلامي، فهو كفيل لحل كل مشاكل البشرية سواء أكانت الاقتصادية أو الاجتماعية أو التعليمية أو الصحية كأزمة كورونا، وصدق رسول الله عليه الصلاة و السلام حيث قال: ” تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء، غير داء واحد الهرم”.