قراقوش.. الحقيقة في متاهات التاريخ (1-3)

مسجد السلطان حسن بالقاهرة (غيتي)

جاءته امرأة حجازية تشكو جارية مملوكة لها، فنظر إليها والدهشة تبلعه وقد أعيته الإجابة عن سؤال تردد في دواخله، سؤالٌ تضاءل عقله عن استيعاب خلفياته وحيثياته، سؤال يتعلق بالميلانين، إذ كيف لامرأة بيضاء أن تخدم امرأة سوداء؟! قلب الدعوى لتوافق تصوره، وافترض أن الشاكية جانية، والمدعى عليها صاحبة دعوى، وهمَّ بسجن المرأة لولا تدخُّل الهيفاء البيضاء وإعلانها -بالفم المليان- عفوها عن صاحبتها.

هذه واحدة من 23 حكاية ألصِقت -إن صدقًا وإن كذبًا- بواحد من رموز حكم الأيوبيين بمصر في القرن السادس الهجري، واتسع الخرق على الراتق يومًا بعد يوم، وبعد ثلاثة قرون يستدعي السيوطي -وهو من هو- جزءًا من تلك الحكايات المختلقة، ويضيف إليها من كيسه، وإن اختلف غرضه عن سابقه، ثم يأتي من بعدهما مستشرق يقال له كازانوفا ليضع كتابًا ثالثًا -وإن دندن على وتر مغاير- ما كرَّس فكرةً تتقاطع -وتتعارض في الوقت ذاته- مع سيرة الشخص المعني، وفق شهادات معاصريه من الثقات والمؤرخين.

الجذور الأولى للحكاية

للوقوف على ملابسات الاختيار -بالأحرى الاختيار الإجباري أو الرواية المتواطئة- علينا أن نتعمق بدرجة ما وصولًا إلى الجذور الأولى للحكاية، ومن ثم فإننا الآن نستنطق رجلين هما أساس القصة، ونلقي الضوء على قصص مخترعة، تاركين للقارئ الفطن مسألة تقييم الموقف وإصدار حكم يراه مناسبًا، و”عقلك في راسك تعرف خلاصك”.

نحن الآن في القاهرة بعد أيام من وفاة العاضد لدين الله، ندخل قصره -أو بالأحرى ما كان قصره- وقد تغيرت أمور كثيرة، هذا وزيره صلاح الدين الأيوبي قد استقل بحكم مصر عن الفاطميين، وأعلن قيام الدولة الأيوبية وتخلّص من الحرس القديم، استقطب خاصة رجاله وأصفيائه ليعزز دعائم دولته الوليدة، وألغى كثيرًا من الأعياد الفاطمية في المحروسة.

المجلس متوتر والأنفاس محبوسة، أناس تتحزب لصلاح الدين وتتعصب له، وآخرون يعضون عليه الأنامل من الغيظ، يرون في الوافد الجديد خطرًا يهدد امتيازات أتحفتهم بها الدولة الفاطمية، لا فرق عند هؤلاء بين الأيوبيين (السُّنة) والفاطميين (الشيعة)، فالدين لله والوطن للجميع، بل إن منهم من رأى في الفاطميين رأفة لم يجدوها في الأيوبيين. ترمق الأبصار صلاح الدين بحذر وترقّب، عن يمينه بهاء الدين قراقوش، وعن يساره الأسعد بن ممَّاتي، وتحكي العيون ما لا تسعه مجلدات من أمر هذين الرجلين!

تناقضات شتى تهيمن على تلك العلاقة، أبصر أحدهما النور في آسيا الصغرى، ربما كان أرميني الأصل، لم يُعرف له أب فعاش طفولة قاسية، وقبل أن يشب عن الطوق وجد نفسه مملوكًا محكومًا عليه بالإخصاء، عومل معاملة دفعته إلى الهرب باتجاه الشام، يوم كان يحكمها الملك عماد الدين زنكي، ومن بعده ابنه نور الدين محمود، والتحق بجيش أسد الدين شيركوه (عم صلاح الدين الأيوبي)، الذي أعجب بشخصية هذا الخصي فقرّبه إليه وعلّمه الرّماية وركوب الخيل وفنون القتال.

في دمشق، تسمّى هذا الخصي بـ”بهاء الدين بن عبد الله الأسدي”، وعبد الله هنا كناية عن أنه لا يُعرف له أب مسلم، ثم التحق بخدمة صلاح الدين، فسُمي بهاء الدين بن عبد الله الأسدي الناصري، أما بخصوص لقبه قراقوش، فقيل إنه مركب من مقطعين باللغة التركية قره (أسود)، قوش (نسر)، يقول ابن خلكان “قراقوش بفتح القاف والراء، وبعد الألف قافٌ ثانية، ثم واو بعدها شين معجمة، وهو لفظٌ تركي تفسيره بالعربي العُقاب، الطائر المعروف، وبه سُمي الإنسان”.

بعد حين من الدهر

نطوي السنين وصولًا إلى سنة 564هـ، وفيها تولى صلاح الدين الأيوبي وزارة مصر -خلفًا لعمه أسد الدين شيركوه الذي توفي بعد شهرين من تسلمه هذا المنصب- لصالح العاضد لدين الله (آخر خلفاء الفاطميين في مصر)، فأعلن استقلاله و”تغدّى بالفاطميين قبل أن يتعشوا به”.

في هذا الوقت الحساس، أسنِدت إلى قراقوش وظيفة “كبير الموظفين بالقصر الخاص”، فحجب فلول الفاطميين عن الملفات الحساسة في الدولة، وأدار الأمور باقتدار أكسبه مزيدًا من ثقة صلاح الدين، وأثبت جدارته بما يوكل إليه من مهام، ولتوفير السيولة للحكومة الجديدة باع قراقوش كنوز القصر الفاطمي -بما في ذلك مكتبته الهائلة- ضمن خطة استراتيجية امتدت عشر سنين، بمعدل يومين أسبوعيًا.

النشأة الخشنة لهذا القراقوش جعلته شخصية باراغماتية، لا يفكر بعواطفه، يطيع الأوامر طاعة عمياء، عسكري النزعة بامتياز، يجد في الأيوبيين ملاذه الوحيد وأسرته الكبيرة التي احتضنته وقدمته على أقرانه، وأي رتبة يطمح إليها أو يطمع فيها وهو قاب قوسين أو أدنى من حاكم مصر؟ كلما التفت إلى ماضيه القريب أدرك أنه قد بلغ ما لم يكن -مهما جمح وجنح- أن يدور بخياله، وتسري في أوصاله رعدة تجعله يتمسّك بأهداب الأيوبيين ويتفانى في خدمتهم.

وبضدّها تتبيّن الأشياء، ينظر ابن ممّاتي إلى الأمور من زاوية مغايرة، فليس بخصي ولا وافد ألقى عصا الترحال بمصر، هو ابن بجدتها، معجون من طينها، ابن عز بمعنى الكلمة، تقلب في أعطاف النعيم منذ نعومة أظفاره، وإن انكسر معنويًا مع هيمنة الأيوبيين على عرش المحروسة؛ فمن يكون ابن ممّاتي هذا؟ وكيف تلاعب بنا حتى هذه اللحظة؟

اسمه من واقع بطاقته الشخصية الأسعد (أبو المكارم) بن الخطير (أبو سعيد) مهذب بن مينا بن زكريا بن قدامة بن مليح ممَّاتي، ولد بالقاهرة سنة 544هـ لأسرة أقبلت من أسيوط. عاصر جده الأكبر الشدّة المستنصرية، يوم عضّ الجوع الناس وقلبت لهم الدنيا ظهر المِجن، فتجمع الأطفال حول بيته ينادونه -كما ينادون أمهاتهم- ممَّاتي (أطعمنا! أطعمنا) وخرج لهم بما يطرد عنهم الجوع، تكرر الموقف مرارًا، حتى أطلق الناس عليه اسم ممَّاتي (بتشديد الميم الثانية)؛ فعُرف به.

أما جدّه الأول -المهذب بن مينا- فقد انتقل إلى القاهرة تاركًا الصعيد، وتوصّل بمثابرته ولباقته إلى الفاطميين، وأسندت له وظيفة مرموقة، في حين أسلم والد صاحبنا على يد صلاح الدين، وفي بعض المصادر أنه أسلم على يد شيركوه، وتولى ديوان الإقطاعات، وكان من أرق شعراء عصره وأعفهم لسانا.

في ترجمة الأسعد بن ممَّاتي وبعد كلامٍ طويل، يقول ابن خلكان “وكان المهذب المعروف بالخطير مرتبًا على ديوان الإقطاعات وهو على دين النصرانية، فلما علم أسد الدين شيركوه -في بدء أمره بمصر- أنه نصراني، وأنه يتصرف في أمره بلا غيار، نهاه وأمره بغيار النصارى، ورفع الذؤابة، وشدّ الزّنار، وصرفه عن الديوان؛ فبادر هو وأولاده فأسلموا على يده، فأقره على ديوانه مدة ثم صرفه”.

والمقصود بما ذكره ابن خلكان أن شيركوه أمر الرجل بارتداء ملابس تشي بدينه، فشعر بالمرارة والصغار، ما دفعه إلى إعلان إسلامه، ربما طمعًا في تثبيت مركزه بالدولة الجديدة، وربما تخلصًا من التمييز الملزمين بتطبيقه إن بقوا على دينهم، وربما اقتناعًا بالإسلام وإقبالًا عليه، وليسامحني القارئ العزيز فإني لا أملك القطع بهذا أو ذاك، وليس هذا مربط الفرس ولا بيت القصيد.

وبضدها تتبيّن الأشياء

نشأ ابن ممَّاتي في كنف أبيه نشأة أدبية، وتنوعت معارفه واهتماماته، اتصل -عبر صيت أبيه وسلطته- بالقاضي الفاضل -رائد النهضة الأدبية يومها- والعماد الأصفهاني، وابن سناء الملك، وأطلق عليه القاضي الفاضل لقب “بلبل المجلس”، وخدم الأيوبيين في حكم صلاح الدين وابنيه العزيز -طوال مدة حكمه- والعادل (خدمه سنة واحدة)، وسيأتي تفصيل ذلك في حينه.

وابن ممَّاتي كاتب قدير، أحصى ابن خلكان له 30 مؤلفًا، منها (قرقرة الدجاج في ألفاظ ابن الحجاج)، و(باعث الجلد عند حادث الولد)، و(طريق الطليق)، و(النهاية في شرح الهداية)، وغيرها، إلا أن كتابه (قوانين الدواوين) يدفع عنه شبهة تلوكها ألسنة كثيرة دونما دليل يعضدها.

وقد يرمقني القارئ العزيز مغضبًا: لعلك أردت لنا أن نصافح هذا القراقوش وابن الممّاتي! ما الحكمة من سرد سيرتهما الذاتية؟ وليتلطّف القارئ الكريم فإن هذا كلام له ما بعده، وإنني لم أثقل عليك بسرد سيرتهما الذاتية، وإنما مجرد نتف منها لا تزد عن كونها مقدمة منطقية صغرى، “والتقل ورا يا قبّاني”.

لكن سؤالك منطقي بالتأكيد، فأين التقاطع بين سيرتي الرجلين؟ ولأنني لا أملك معلومةً بخصوص الباعث الأول أو الثاني أو حتى العاشر للصدام المدوي بينهما، إلا أنني أعتقد كثيرًا في مقولة ابن رشيق القيرواني “المعاصرة حجاب”، وفي المثل العربي “المُلكُ عقيم”، لا سيّما وأن المؤرخين قد سكتوا عن بيان سبب الخصام بين قراقوش وابن ممَّاتي، هذا إن تخاصما بالفعل. والآن كيف تندّر ابن ممَّاتي على قراقوش؟ وماذا قصد من وراء تمريغ سمعة رمز السلطة الأول؟ ولماذا غلبت الصورة الكاريكاتيرية لقراقوش على الصورة التاريخية؟ هذا مدار حديثنا المقبل.