أردوغان.. الفجر الصادق الذي خرج بتركيا من الليالي المظلمة

لا شك أن مدى اتساع ونهضة كل أمة يتشكل بقدر أفق عقل قائدها، فهناك رابطة ثنائية الاتجاه بين القائد وأمته. ففي حين أن القائد هو خلاصة وجوهر أمته في أول طرفي تلك الرابطة، تتجلى في الطرف الثاني منها منزلة الأمة في كونها مصدر قوة القائد ونقطة انطلاقه.

ومن المعلوم أن التغيرات والتحولات الاجتماعية تحدث أولا، ثم تليها التغيرات والتحولات العقلية، ثم لا تلبث تلك التحولات الذهنية التي تبدأ أولى مشاعلها بنخبة وشخصيات مميزة تولوا مهمات تاريخية، أن ينتشر تأثيرها حتى يشمل جميع عناصر الأمة بمرور الوقت. وهكذا، فإن المهمة التاريخية للقائد، التي اضطلع بها بمفرده وحمل لواءها في البداية، تمتد إلى أمته جمعاء وإلى كل من يؤمنون به.

لذلك فإن المهمة التي يؤديها القائد ويحمل أعباءها هي ما يجعله ناجحا، ومن ثم فإنه كلما كانت المهمة أكثر واقعية وجدوى، أصبح القائد أكثر مصداقية وزادت تبعا لذلك المكاسب الحقيقية التي يحققها. وبعبارة أخرى فإنه كلما ارتقت المهمة التاريخية التي يسعى خلفها القائد، زادت رقعة التحولات النهضوية والقفزات الرادكالية (الجذرية) التي تشهدها الأمة.

مما لا ريب فيه أن الإيمان بقوة الذات إلى جانب قدرة الأمة، والتعايش مع الشعب، والمضي قدمًا معه، عناصر يمكن اعتبارها من علامات الشخصية ذات الكاريزما ومن المؤشرات الطبيعية للقيادة. فالقائد لا يمكن استيراده من الخارج، ولا يمكنه أن يتحدث بلغة الآخر أو بوجهة نظر ومفاهيم الآخر، علاوة على أنه لا يمكن للقائد أن يتبنى أنماط حياة تنتمي إلى قيم مناطق أخرى غير أمته، فكل ذلك لا يناسب القائد، بل إذا كان القائد قائدا بالفطرة، فعليه أن ينطلق من جوهر أمته وأصالتها، ويتحدث بمفاهيمها، ومن وجهة نظرها، ويتبنى طرق الحياة المناسبة لقيمها ومبادئها. وبعبارة أخرى، هناك ضرورة لها قيمة وجودية هي أنه من اللازم وجود انسجام تام بين القائد وأمته، وتناسق فطري كامل مع معطيات القدماء التي تنتمي إليهم الأمة.

جوهر أمته

عندما نتأمل هذه المسألة في تركيا على وجه الخصوص، يمكننا القول إنَّ رجب طيب أردوغان يمتلك الصفات المذكورة آنفا، ولديه المؤهلات السالفة الذكر، وصاحب الجوهر المقصود في الفقرة أعلاه؛ فأردوغان كما ذكرنا هو جوهر أمته وخلاصتها المصنوع على عينيها. ومرة أخرى، فإن أردوغان منذ اليوم الذي وصل فيه إلى السلطة، قد أدرك الأهمية الحيوية للمضي على طريق البناء مع أمته، وفي مسيرته السياسية قطع مسافة طويلة لم تكن يوما على الرغم من الأمة، بل كانت دائما معها جنبا إلى جنب.

تبعًا لما يمليه عليَّ اقتناعي الشخصي، يجب البحث والتنقيب عن سحر انطلاقة تركيا الجديدة في ضوء القيادة الطبيعية المتبلورة في شخص أردوغان. ولا يتوقف مدى ذلك الضوء على أنه نهض بتركيا وينشر ضوء النهضة على الأراضي التركية، ولكن أيضا في طبيعة إحالته الظلام نفسه مصدرًا للنور. وهذا يعني أن الفجر الصادق المستنير، أي ولادة أفق فجر جديد في بلاد المسلمين، لن يصير أبدا ظُلمةً مرة أخرى.

ومرة أخرى، نرى أن التغيير الذي تشهده تركيا، جاء نتيجة أنّ أمة أصيلة وذات وعي بالتاريخ، لديها القابلية لأن تصبح قوة عالمية، فضلا عن براعتها في هذا الصدد، قد أذن لها أن تلتقي مع قائد مثَّل لتلك الأمة مرآة انعكست عليها آمالها على أساس وبصيرة مع القدرة على خوض غمار المخاطرة، معتمدا على موقفه المستقيم الذي يكشف عن امتلاكه قدرات قائد عالمي. قد يتأخر هذا الاجتماع، بل قد يكون ذلك الاجتماع قد تأخر بالفعل، لكن هذين الشرطين اللازمين لتكون تركيا قوة عالمية عاجلًا أم آجلًا، كانا العاملين الرئيسيين في بناء تركيا الجديدة.

إن مما لا يخفى على قارئ التاريخ من منطلق فحص مسارات توازن القوى العالمية، أن التغييرات الكبيرة تأتي بعد فوضى كبيرة. حيث إن أوقات ظهور الثغرات ونقاط الضعف في ميزان القوى القائم، إلى جانب القصور في البنى الأمنية المفروضة تحت حماية القوة، هي ذاتها الأزمنة التي تبدأ فيها القوى الجديدة الناشئة ومهندسو هياكلها الأمنية الصاعدة الظهور على الساحة بطريقة أو بأخرى، بديلا للقوى التي يسير نجمها إلى أفول.

تركيا الفاعلة

واليوم ها هي الحرب الروسية الأوكرانية قد أظهرت، أن توازن القوى العالمي الذي نشأ في العالم بعد الحرب الباردة، قد خسر تأثيره وفقد معناه. ويبدو أن هذه الخسارة ستخلق مشاكل كبيرة لمناطق وبلدان مثل الشرق الأوسط والقوقاز والبلقان وآسيا الوسطى، التي تسعى للمحافظة على بقائها بعقد توازنات ذات أرصدة هشة للغاية.

وبإلقاء نظرة على تأثير الحرب في سوق الطاقة، ليس فقط في المناطق المهترئة، فإن العديد من الدول الغربية، وخاصة دول الاتحاد الأوربي، تنتظرها ليالي شتاء باردة. وبالإضافة إلى تلك الأزمة التي تبدو في الأفق، فإن جهود الدول الغربية وسعيها الحثيث للانضمام إلى حلف الناتو، وسباق التسلح بين دول الاتحاد الأوربي، إلى جانب محاولات دولة مثل ألمانيا تأسيس جيش، تمكننا من قراءة كل تلك المساعي على أنها خطوات متسارعة لصراع عالمي محتمل بحكم الأمر الواقع.

وفي خضم هذه التسارعات في الأحداث العالمية، وفي مثل هذه الفترة العصيبة، وتحت قيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، تتقدم تركيا في خطوات ثابتة؛ لتصبح المهندس الجديد لصناعة الأمن للعالم الجديد. وابتداء من أزمة الحبوب التي ظهرت في طيات الحرب الروسية الأوكرانية، مرورا بالمبادرات التي اتخذتها تركيا لوضع نهاية للحرب، ثم الجداول الزمنية التي رسمتها، كل تلك الفعاليات تشير بوضوح إلى أن تركيا ستكون واحدة من الجهات الفاعلة المهمة في التشكيل الأمني العالمي الجديد.

واليوم، ترقب عيون وآذان العديد من البلدان في شغف، تدفق البيانات المتعلقة بأزمة الحبوب التي تحاول تركيا وعلى وجه الخصوص رئيس الجمهورية حلها، والتي لا يمكن التكهن هل سيتم حلها أم لا، ولكن الحقيقة أنه إذا تم حلها، فسيتم ذلك بفضل مساعي تركيا.

وبينما تتقدم تركيا بخطوات ثابتة وبمنهجية لا رجعة فيها لتصبح العنصر المؤسس للعالم الجديد، فإنها تنتظر على أحر من الجمر، تجربة إعادة العقد وتجديد الميثاق بين زعيمها وأمتها مرة أخرى في عام 2023، على أساس مطالب الديمقراطية وجمالياتها.

كلمة أخيرة للذين يتساءلون عن نتائج الانتخابات: لا تنسوا أنه مهما حدث، فلم يسبق أن شهدنا في التاريخ خسارة زعيم يمثل جوهر الأمة وخلاصتها.