“منتخب الأمّهات” وفلسطين.. كيف شكّلت قطر طابعا تفاعليا استثنائيا خلال المونديال؟

المكان والبيئة الاتصالية يؤثران في تبادل التفاعل الرمزي للجمهور واللاعبين (منصات التواصل)

أظهرت بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022 في قطر خصوصية تبادل التفاعل الرمزي للجمهور، الذي أبرز مركزية بعض القضايا التي تشغل اهتماماته وتمس حياته اليومية مثل التعايش مع الآخر والتضامن مع فلسطين ورفض التطبيع وإعلاء القيم الأسرية.

وأصبح فيض الرموز والتعبيرات غير الكلامية (الأزياء الشعبية، الأعلام الوطنية، الحركات) بديلًا عن الرموز السمعية أو المكتوبة. هذا يؤكد دور المكان “الموقع” في تشكُّل الإطار الدلالي القيمي للبطولة، وفق تعليق للباحث بمركز الجزيرة للدراسات محمد الراجي.

وليست الرموز والتعبيرات غير الكلامية فعلًا اتصاليًّا حصريًّا أو غير مسبوق في مونديال قطر، بل كانت بعض الرموز حاضرة في النسخ السابقة بحسب السياق الثقافي وبيئة البلد المستضيف للبطولة، فقد ارتدى المشجعون الأجانب أزياء المحاربين الرومان في نسخة إيطاليا 1990، والقبعة المكسيكية في نسخة 1986 وهكذا.

لكن نسخة قطر أخذت طابعًا استثنائيًّا ومتفردًا بكل المقاييس حيث شكَّل المكان عاملًا اتصاليًّا جعل سلوك الأفراد والمجموعات نتاجًا لتأثيرات القيم السائدة في المجتمع القطري والتفاعل معها.

القضية الفلسطينية والجمهور

وهذا ما عزَّز إرادة الجمهور واللاعبين أيضًا مثل أفراد المنتخب المغربي، في رفع العلم الفلسطيني بمدرجات الملاعب والساحات والفضاءات العامة، أو التعبير عن مواقف مؤيدة لتحرير فلسطين أمام كاميرات وسائل الإعلام الأجنبية والإسرائيلية منها خاصة، كما هي حال بعض المشجعين الأجانب.

ولعل ما يؤكد أهمية المكان (قطر) وتأثيره، ظهور بعض السياسيين الغربيين مثل رئيسة كرواتيا السابقة كوليندا غرابار كيتاروفيتش التي ظهرت تحمل وشاح فلسطين خلال حضورها مباراة منتخب بلادها ضد بلجيكا.

ويعني هذا الفعل تحرُّر هؤلاء السياسيين من ضغوط الموقع الجغرافي لدولهم وتأثيراته السياسية، لذلك يكون هذا التفاعل الرمزي تعبيرًا عن عدالة القضية الفلسطينية التي تحظى بدعم الجمهور والرأي العام الدولي، كما يُعَد هذا التفاعل إبطالًا رمزيًّا لسياسات الاحتلال، وهو ما يجعل القضية الفلسطينية في نسخة قطر عابرة للحسابات السياسية والتصورات الأيديولوجية للجمهور الأجنبي.

كما يمثِّل تفاعل الجمهور العربي مع القضية الفلسطينية “استفتاء شعبيًّا” ضد التطبيع -وفق الباحثة فاطمة الصمادي- ورفضًا صريحًا لرهاناته التي تُرسِّخ السلام بالمنظور الإسرائيلي عبر طمس هوية الوجود الفلسطيني، ويؤكد هذا التفاعل نصرة الجمهور العربي للشعب الفلسطيني ومركزية القضية في اهتمامات هذا الجمهور.

وقد انتبه الإعلام الغربي إلى هذه الحقيقة مثلما جاء في المجلة الأمريكية (ذا إنترسبت) التي أشارت إلى التأييد الواسع لاستمرار مقاطعة إسرائيل منذ انطلاق بطولة كأس العالم في قطر، حيث يرفض المشجعون الاعتراف بوجود إسرائيل.

واستندت المجلة إلى استطلاع للرأي أُجري في 2020 بعد اتفاقية أبراهام، وتبيّن أن 88% من المغاربة يرفضون التطبيع، وهذا ما يفسر الانتقادات الصادرة عن بعض الأصوات الإسرائيلية التي هاجمت المنتخب المغربي بعد رفع اللاعبين للعلم الفلسطيني.

إذَن، لا يمكن النظر إلى تفاعل الجمهور مع القضية الفلسطينية بمعزل عن دور المكان (قطر) بأبعاده المختلفة الداعمة للقضية الفلسطينية، ويصعب توقّع هذا التفاعل في مكان وموقع آخر يدعم الاحتلال الإسرائيلي.

التعايش الحضاري

ظهر أيضًا اهتمام الجمهور، خاصة غير العربي، باللباس الخليجي العربي التقليدي (الثوب والشماغ والعقال)، فكان يرتدي الثوب بألوان أعلامه الوطنية في الملاعب والساحات والفضاءات العامة. كما برزت صور النساء الأجنبيات اللائي يرتدين العباءة العربية التقليدية مثل مشجعات المنتخب الأرجنتيني.

ويشير هذا السلوك إلى إثبات التواصل والتعارف الحضاري بين الشعوب والتعايش ونبذ الصراع الهوياتي والثقافي. وتحوَّل هذا اللباس العربي التقليدي إلى رمز حضاري لتقارب الجمهور وهو ما يُبطل الصورة النمطية عن الثوب والشماغ والعقال، ويُلغي الدلالات السلبية التي تربط هذه الرموز بالبداوة والتخلف والإرهاب كما تُروِّج لذلك بعض الإنتاجات الغربية.

وسمح التفاعل الرمزي والاجتماعي بتكوين “أفكار شخصية” عن البيئة المحيطة وظروف البطولة والأفراد في القطاعات المختلفة، وأن تصبح هذه الأفكار الشخصية بناءً للمعنى وتفسيرًا للواقع.

إبطال المثلية في البطولة

على الرغم من المساعي التي بذلتها بعض الدول الأوربية  لدعم المثليين خلال مباريات المونديال، فإن خصوصية المكان بمرجعياته وموروثه الثقافي والحضاري أبطلت تبادل التفاعل الرمزي مع رغبة البعض في “التطبيع” مع المثلية و”مجتمع الميم”.

لذلك تفاعل الجمهور في البطولة مع حركة لاعبي منتخب ألمانيا الذين وضعوا أيديهم على أفواههم قبل انطلاق مباراتهم الأولى مع اليابان احتجاجًا على رفض الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) السماح لهم بحمل شارة دعم المثليين.

ورفع المشجعون صور اللاعب الألماني السابق مسعود أوزيل، واضعين أيديهم على أفواههم تذكيرًا لألمانيا بـ”العنصرية” التي تعرَّض لها اللاعب ذو الأصول التركية.

وحين كشفت وزيرة الداخلية الألمانية عن شارة دعم المثليين، ردَّ عليها بعض المشجعين بارتداء شارة مناصرة فلسطين. أما لاعبو المنتخب الياباني، فقد وضعوا أيديهم على أفواههم بعد نهاية مباراتهم مع ألمانيا، في حركة بدت ساخرة مستهجِنةً ما أقدم عليه اللاعبون الألمان.

“منتخب الأمهات” وتعزيز القيم الأسرية

من الرموز والتعبيرات غير الكلامية التي ستظل وسمًا مميزًا لمونديال قطر هي سلوكيات لاعبي المنتخب المغربي -الذي سمَّاه البعض “منتخب الأمهات” و”منتخب المرضيين”- بعد انتهاء كل مباراة، فقد كان اللاعبون ومدرّبهم يتوجهون إلى المدرجات لتقبيل رؤوس أمهاتهم.

وهو مشهد احتفالي غير مألوف في ملاعب كرة القدم، أراد له اللاعبون أن يكون تعبيرًا رمزيًّا عن التقدير والامتنان لمصدر العطاء غير المتناهي (الأم) والاعتراف بتضحياتها خلال مسيرتهم الرياضية.

ردود أفعال كثيرة توقفت عند معان مختلفة لهذا السلوك الرمزي، وقد تداولت وسائل الإعلام العالمية تلك المشاهد على نطاق واسع وأرفقتها بتعليقات وقراءات قارنت فيها تلك القيم مع قيم الفردانية السائدة في المجتمعات الغربية خاصة، وهو ما جعل البطولة تأخذ طابعًا عائليًّا يمثِّل مصدرًا لإلهام اللاعبين.

المصدر : مركز الجزيرة للدراسات