مصر.. هل تفلح سياسات صندوق النقد في إنقاذ الاقتصاد أم تدفع بملايين المصريين تحت خط الفقر وانتهاك سيادة الدولة؟

ديون مصر الخارجية تضاعفت بأكثر من 3 مرات في السنوات العشر الأخيرة لتصل إلى أكثر من 155 مليار دولار (غيتي)

واصل معدل التضخم السنوي في مصر الارتفاع ليبلغ قرابة (22%) في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وسط ارتفاع أسعار الغذاء نتيجة انخفاض قيمة العملة المحلية ونقص العملة الأجنبية، فيما طالب صندوق النقد الدولي الحكومة بتشديد سياستها النقدية لمواجهة ذلك.

والأربعاء الماضي، فقد الجنيه المصري الكثير من قيمته وهوى إلى مستويات قياسية جديدة عند حوالي 32 جنيهًا مقابل الدولار الأمريكي قبل أن يسترد بعضًا مما فقده في وقت لاحق، ووصل لحوالي 29.60 مقابل الدولار مع انتقال البنك المركزي إلى نظام صرف أكثر مرونة بموجب شروط حزمة دعم مالي من صندوق النقد الدولي.

وفي تقرير مُقدم إلى صندوق النقد الدولي، قالت الحكومة المصرية إن البنك المركزي قد يتدخل أحيانًا في أوقات التقلب المفرط في أسعار الصرف، لكن دون اللجوء لاستخدام الأصول الأجنبية الصافية للبنوك لتحقيق استقرار العملة.

وخفض صندوق النقد، بحسب تقرير له “توقعاته بالنسبة لمعدل النمو الاقتصادي في مصر للعام المالي الجاري 2022/2023 ليبلغ 4% بدلًا من 4.4% في السابق”.

ووفق إحصائية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فإن مصر حلت في المركز الثاني ضمن أكثر الدول اقتراضًا من صندوق النقد الدولي، بدين يبلغ حجمه 20.5 مليار دولار، بينما حلت الأرجنتين في المقدمة حيث يبلغ حجم ديونها للصندوق 42.2 مليار دولار.

والشهر الماضي، وافق الصندوق على منح مصر قرضًا بقيمة 3 مليارات دولار تسدد على 46 شهرًا، فيما يبلغ عبء خدمة الدين الذي يتعين على القاهرة سداده خلال العام المالي 2022/2023 حوالي 49 مليار دولار.

ولا يتجاوز الاحتياطي النقدي لدى القاهرة 34 مليار دولار، من بينها 28 مليار دولار ودائع من دول الخليج، لكن ديون مصر الخارجية تضاعفت بأكثر من 3 مرات في السنوات العشر الأخيرة لتصل إلى أكثر من 155 مليار دولار.

انتهاك سيادة الدول

في كتابه “صندوق النقد الدولي.. قوة عظمى في الساحة العالمية” قال الباحث إرنست ڤولف “هذا الكتاب هدية لبني البشر في أفريقيا وآسيا وجنوب أمريكا الذين لا يستطيعون قراءته، لأن سياسة هذا الصندوق قد حرمتهم من الالتحاق بالمدارس”.

وأشار في مقدمة الكتاب إلى أنه من الناحية الرسمية تكمن وظيفة الصندوق الأساسية في العمل على استقرار النظام المالي ومساعدة البلدان المأزومة على تلافي ما تعانيه من مشاكل، غير أن تدخلاته في الشؤون الداخلية للبلدان المقترضة تبدو في الواقع أشبه ما تكون “بغزوات جيوش متحاربة، حيث ينتهك سيادة هذه الدولة أو تلك، ويجبرها على تنفيذ إجراءات ترفضها الأغلبية العظمى من المواطنين، وتخلف وراءها مساحة عريضة من خراب اقتصادي واجتماعي”، على حد وصفه.

وأضاف ڤولف “في كل هذه التدخلات لم يستخدم الصندوق أسلحة أو جنودًا، بل كان يستعين بوسيلة غاية في البساطة، وبواحدة من آليات النظام الرأسمالي، وهي عمليات التمويل”.

المقر الرئيسي لصندوق النقد الدولي – واشنطن – الولايات المتحدة (رويترز)

الصندوق يعمل ضد أهدافه

وأظهر تقرير لخبراء صندوق النقد الدولي أن مصر التزمت بمرونة العملة ودور أكبر للقطاع الخاص ومجموعة من الإصلاحات النقدية والمالية عندما توصلت إلى اتفاق على حزمة دعم مالي بقيمة 3 مليارات دولار مع الصندوق.

وكانت رئيسة بعثة صندوق النقد الدولي في مصر إيفان هولر قد قالت إن الفجوة التمويلية لمصر تبلغ حوالي 17 مليارًا على مدى السنوات الأربع القادمة، سيسهم قرض الصندوق في سدها.

وأضافت أن تمويل الصندوق “من المتوقع أن يحفز تمويلًا إضافيًا من الشركاء الثنائيين ومستثمري القطاع الخاص”، مشيرة أيضًا إلى خطة مصر لبيع أصول مملوكة للدولة.

وفي خطاب نوايا موجه إلى صندوق النقد الدولي بتاريخ 30 نوفمبر/تشرين الثاني، تعهدت الحكومة المصرية بإبطاء وتيرة الاستثمار في المشروعات العامة، بما في ذلك المشروعات القومية، وذلك للحد من التضخم والحفاظ على العملة الأجنبية، من دون تحديد المشروعات التي ستخضع لذلك.

كما ستسمح مصر لأسعار معظم منتجات الوقود بالارتفاع حتى تتماشى مع آلية مؤشر الوقود في البلاد، لتعويض التباطؤ في مثل هذه الزيادات خلال السنة المالية الماضية.

وفي هذا الشأن قال الكاتب والباحث الاقتصادي وائل جمال إن مشكلة برامج صندوق النقد تتمثل في أن منطقها يعمل ضد أهدافها.

وأضاف خلال حديثه لـ”موقع الجزيرة مباشر” أن رفع الفائدة وتخفيض قيمة العملة هي إجراءات من شأنها رفع عجز الموازنة وتكلفة الاستدانة وقيمة الديون مما يجعل أهداف الانضباط المالي أصعب.

وتابع “يصبح استعادة النمو أصعب في هذه الحالة، لأن هذه الإجراءات بجانب رفع أسعار الطاقة تخلق صعوبة في الاقتراض وتخفض الاستهلاك مما يخلق كسادًا وتراجعًا في الطلب”.

وأوضح جمال “التجربة التاريخية تخبرنا أن التصدير لم يزد في الحالة المصرية رغم تراجع قيمة الجنيه”، مردفًا، “هذا إذا تم استبعاد الآثار الاجتماعية الفادحة التي أضافت 5 ملايين فقير في حزمة سياسات 2016، ويتوقع أن يكون لها آثار أفدح على مستويات المعيشة والفقر”.

ولفت إلى أن “البرنامج المتفق عليه بين الحكومة المصرية والصندوق لا يحل المشكلة بل يفاقمها”.

وعن الحلول المقترحة للخروج من الأزمة الاقتصادية، قال جمال “البدائل موجودة -لكن تكمن المشكلة في أنها هيكلية- وتزداد صعوبة كلما أوغلنا في الغوص بفخ الديون الخارجية”.

وأشار جمال إلى أن بيع الأصول في الحالة المصرية ليس حلًا على الإطلاق، في إشارة إلى إمكانية احتذاء النموذج الماليزي للخروج من الأزمة الاقتصادية، مشيرًا إلى أن الأزمة في مصر تتمثل في الانحيازات الإيديولوجية والطبقية لنظام الحكم.

هل تنجح سياسات الصندوق مع مصر؟

وبشأن توجيه الصندوق ببيع بعض الأصول، أوصى مصطفى يوسف الباحث في الاقتصاد السياسي ومدير المركز الدولي للدارسات التنموية بعدم بيع أي أصول مصرية للأجانب.

وأضاف خلال حديثه لـ”موقع الجزيرة مباشر” أن المستثمرين الأجانب يبحثون عن شركات مربحة، والعملة المصرية في انخفاض، لافتًا إلى أنه في حال “قهرية البيع” لإصلاح خطايا النظام الاقتصادية فليكن للمصريين في الداخل، بهدف تمويل خطط تنموية محددة والحفاظ على العمالة وضمان عدم تسريحها وإنعاش السوق المحلي عن طريق الاحتفاظ بأرباح هذه الشركات داخل مصر، وإنفاق هذه الأرباح داخل السوق الوطني”.

وأكد يوسف أن الاعتماد على توصيات صندوق النقد الدولي وشروطه سيؤدي بمصر إلى استنساخ تجارب مؤلمة للغاية مثل تجربة الأرجنتين في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات مع تولي الجنرال خورخي فيديلا الحكم إثر انقلاب عسكري -أسس بعده لحكم استبدادي- متبعًا سياسات الصندوق من رفع لسعر الفائدة والضرائب وبيع الشركات الوطنية ما أدى إلى إدمان الاقتصاد الأرجنتيني للقروض، وتزايد معدلات الفقر على نحو غير مسبوق.

وتابع “مع هذه الكوارث فإن صندوق النقد الدولي ظل يشيد بالأرجنتين ووصفها بالمثال الساطع رغم أنها باعت 40% من مجمل مشاريع الدولة و90% من مصارفها حتى وصلت نسبة الفقراء إلى 37%”.

مصطفى يوسف الباحث في الاقتصاد السياسي ومدير المركز الدولي للدارسات التنموية

وأرجع يوسف هذا التدهور إلى ما أسماه مثلث الرعب المتمثل في “الاستبداد والقروض واتباع سياسات صندوق النقد الذي يروج لليبرالية المتوحشة”.

ودعا يوسف الحكومة المصرية إلى استحداث نظام ضرائبي قويم، واعتماد نظام ضرائب تصاعدي يساعد في خفضها إلى الحد الأدنى على كل أسرة ذات دخل يقل عن 10 آلاف جنيه شهريًا مع تخفيف الرسوم المستحدثة والضرائب الجزافية.

وشدد على إلغاء الإعفاءات الضريبية والرسوم الجمركية التي حصلت عليها بعض الجهات، وتحميلها تلك الضرائب والرسوم بأثر رجعي.

وطالب يوسف بعدم إسناد أي مشروعات بالأمر المباشر.

وحض يوسف على تقليص الإنفاق الحكومي بشكل فوري وتحديدًا مصروفات الحكومة والبرلمان ومؤسسة الرئاسة والجهات الأمنية والجهات السيادية والصحف القومية والمؤسسة العسكرية.

واختتم حديثه بالقول إن رضوخ الحكومة المصرية لشروط صندوق النقد التي تتمثل في (تخفيض قيمة العملة وتحرير عملية الاستيراد بالكامل والتوسع في الاقتراض من الخارج ورفع سعر الفائدة وزيادة الضرائب والرسوم وتقليل الإنفاق العام وخفض الدعم إلى أن يتم إلغاؤه بشكل كامل) سيدفع بعشرات الملايين من المصريين إلى تحت خط الفقر.

وأوضح أن “روشتة” الصندوق ستدفع بالعديد من الشركات المتوسطة والصغيرة إلى الإغلاق نتيجة استحالة الحصول على تمويل بسبب رفع سعر الفائدة بشكل جنوني (توجد شهادات ادخارية بسعر فائدة 25%؜).

وأضاف “معظم الصادرات المصرية تحتوي على سلع وسيطة مستوردة -فضلًا عن الآلات والمعدات المستخدمة فيها- مما يجعلها غير تنافسية نتيجة زيادة تكلفة الإنتاج”.

وشدد يوسف على إمكانية السير عكس “روشتة” صندوق النقد، في إشارة إلى ما قامت به البرازيل حين استطاعت تسديد ديونها، وخلق 15 مليون فرصة عمل، لافتًا إلى أن رئيسها لولا دي سيلفا كان من مؤسسي “البريكس” حتى تخرج البرازيل والدول الطامحة للاستقلال الاقتصادي من أتون الهيمنة الأمريكية وأدواتها المتمثلة في صندوق النقد والبنك الدولي.

المصدر : الجزيرة مباشر