السودان: سلة غذاء العرب يتضور جوعا ويتوق للحرية

صورة من مسيرة الخرطوم الحاشدة-25 ديسمبر

في وقت تتجه فيه الأنظار إلى ما يشهده الشارع السوداني من مظاهرات واحتجاجات شعبية، مطالبة بالعيش الكريم، يتساءل البعض عن سبب كبوة ” سلة غذاء العالم العربي” في القيام بدوره.

يمور السودان بالثروات الطبيعية والموارد الكثيرة والمتنوعة والتي تؤهله لأن يكون إحدى الدول التي توفر  الأمن الغذائي في العالم العربي، إن لم يكن في العالم كله.

ويعاني الوضع الاقتصادي بالسودان، من أزمات متعاقبة ساءت معها الأحوال المعيشية للمواطن، وساهمت في انطلاق احتجاجات شعبية تعيشها أنحاء البلاد المختلفة منذ الأسبوع الماضي.

ومنذ الأربعاء الماضي، تشهد عدة مدن في السودان مظاهرات احتجاجا على تدهور الأوضاع الاقتصادية، أسفرت عن مقتل 8 أشخاص بحسب السلطات، فيما قالت منظمة العفو الدولية إن 37 شخصا سقطوا ضحايا الرصاص الحي في غضون 5 أيام.

الزراعة كانت عماد الاقتصاد السوداني
مشروع الجزيرة.. عمود الاقتصاد السوداني:
  • مرّ الاقتصاد السوداني بعصور زاهية، لكن تعاقب الحكومات العسكرية وفشلها في إدارة موارد الدولة بطريقة رشيدة أهدر الكثير من مواردها الكبيرة.
  • كان الاقتصاد السوداني يعتمد على الزراعة والرعي وإنتاج الصمغ العربي وبعض الصناعات، وكان مشروع الجزيرة من أكبر المشاريع الزراعية في أفريقيا ويمثل وريد الاقتصاد الوطني.
  • يقع مشروع الجزيرة الزراعي في وسط السودان بين النيلين الأزرق والأبيض في السهل الطيني الممتد من منطقة سنار إلى جنوب الخرطوم عاصمة السودان، وتبلغ مساحته مليونين و200 ألف فدان (850 كم).
  • أُنشئ المشروع في عام 1925. من قبل الاستعمار البريطاني لمدّ المصانع البريطانية بحاجتها من خام القطن والذي شكل العمود الفقري لاقتصاد السودان بعد الاستقلال، ويعتبر مشروع الجزيرة أكبر مشروع مروي في أفريقيا.
  • ساهم المشروع خلال السنوات الماضية بأكثر من 65% من الإنتاج الزراعي السوداني، وكان يشكل (قبل النفط) 45% من صادرات السودان، ويساهم في الميزانية العامة للسودان بهذه النسبة الكبيرة.
  • شهد مشروع الجزيرة، بداية الثمانينيات تدهورا كبيرا أدى إلى تراجع إنتاج القطن المحصول الرئيس الذي يدر العملة الصعبة للخزينة العامة، غير أن البعض ينحي باللائمة على الحكومة الحالية التي أهملته وغضت الطرف عن المشاكل التي يعانيها في سياسة اعتبرها البعض متعمدة.
الأزمة الاقتصادية في السودان:
أحد المخابز بالعاصمة السودانية- 25 أغسطس
  • بعد ظهور النفط في الثمانينيات، اتجهت أنظار الحكومة إليه وانخرطت فيه، ويقول مراقبون إن الحكومة انشغلت بالوفرة البترولية قصيرة الأجل التي وفرت لها فجأة أموالاً طائلة بددتها دون أن تلتفت لتوصيات مختصين بأن تستثمر أموال النفط في تطوير الاقتصاد الحقيقي للسودان المتمثل في الزراعة وفي التصنيع الزراعي.
  • في عام 2005 وقعت الحكومة اتفاقية نيفاشا مع الحركة الشعبية ممثلة في ذلك الوقت بالعقيد الراحل جون قرنق، ومن بين أهم البنود التي تضمنتها إعطاء قطاع جنوب السودان حق تقرير المصير بعد ستة أعوام من التوقيع، إلا أن مقتل جون قرنق في حادث سقوط طائرة أدى إلى سير الأمور على نحو آخر.
  • ملامح انفصال الجنوب كانت تبدو واضحة بعد مقتل جون قرنق وكانت تستوجب من الحكومة اتخاذ تدابير وقائية لسد العجز الاقتصادي الذي سينتج عن ذهاب بترول الجنوب، إذ إن 75% من إنتاج البترول يتم إنتاجه في حقول تابعة لجنوب السودان الذي كان على وشك الانفصال.
  • آثار انفصال جنوب السودان بدأت تظهر جليا على اقتصاد الشمال عام 2012، حيث بدأت قيمة العملة السودانية تنخفض أمام العملة الأجنبية، وكان الدولار وقتها تعادل قيمته ثلاثة جنيهات، وواصلت العملة بعد ذلك الانخفاض بمعدل أكثر حتى وصلت قيمة الدولار خلال أربع سنوات ما يقارب 11 جنيها.
  • انفصل جنوب السودان، ومعه نفطه ما أدى لانكشاف اقتصاد الشمال الذي أهمل في فورة بترول الجنوب صادراته الاقتصادية التي كانت تدر الدخل الأجنبي للخزينة العامة، فكان أن أصبحت حصيلة صادراته لا تغطي فاتورة الواردات.
  • كل ذلك، أدى لخلل في ميزان المدفوعات وندرة في العملات الأجنبية، أدت لتدني العملة الوطنية وخلق سوق موازية ” سوق سوداء” للدولار، وتضاعفت أسعار السلع الأساسية والخدمات وأصبحت فوق طاقة المواطن وتدنت القوة الشرائية لمعظم السودانيين.
أين ذهبت عائدات البترول؟
النفط في السودان
  • بحسب تقارير رسمية وصل إنتاج مصفاة الخرطوم في العام 2005 إلى 100 ألف برميل في اليوم وتطورت مصفاة الأبيض لتنتج 15 ألف برميل في اليوم، وبعد توسع عمليات الاستكشاف ارتفع احتياطي النفط السوداني المؤكد إلى 700 مليون برميل وإجمالي الاحتياطي بنحو 5 مليارات برميل في العام 2005.
  • بحسب تقرير سابق لإدارة البترول بلغ إنتاج النفط بالجنوب (86.6%) من حجم النفط المنتج بالبلاد خلال الربع الأول من العام (2010) بينما بلغ النفط المنتج بالشمال نحو (14.32%) حيث أنتجت الحقول النفطية الواقعة بالشمال نحو (6.1) ملايين برميل خلال الربع الأول من العاموالنفط المنتج بمنطقة أبيي نحو (0.98%) أي أقل من (1%).
  •  قسمة عائدات هذا الإنتاج بين الشركات المنتجة والحكومة تمت وفقاً لاتفاقية السلام ليقفز نصيب الحكومة إلى (23.2) مليون برميل خلال الربع الأول من العام 2010 مقارنة ب(16.7) مليون برميل لنفس الفترة من العام 2009 بزيادة بلغت (38.8%).
  • تراجع نصيب الشركاء (الشركات العاملة في مجال إنتاج النفط) من (20.9) مليون برميل خلال الربع الأول من العام 2009 إلى (15.6) مليون برميل خلال الربع الأول من العام 2010. بنسبة تراجع بلغت (25%) نتيجة لارتفاع أسعار النفط خلال الربع الأول من العام حيث قفزت أسعار مزيج النيل إلى (77.7) دولارا للبرميل مقارنة ب(35) دولاراً للبرميل في الربع الأول من العام 2009.
  • نسبة الزيادة في الأسعار فاقت ال(100%) في وقت قفزت أسعار(مزيج دار) إلى (65.5) دولارا للبرميل خلال الربع الأول من العام 2010 مقارنة ب(20.5) دولاراً للبرميل بنسبة تفوق ال(200%.
  • يقول خبراء اقتصاديون، إن حجم عائدات البترول التي وصلت للحكومة منذ بداية الإنتاج والتصدير في العام 1999. تبلغ (70) مليار دولار، علاوة على (20) مليار دولار أخرى عبارة عن عائدات الصادرات التقليدية.
  • ويوضح الخبراء أن هذه الأموال لم تستخدم في تنفيذ مشروعات للتنمية من طرق وسدود وتطوير صناعات في البلاد، كانت ستكون سندا للعجز الكبير الذي نتج بعد انفصال الجنوب مع بتروله، وتم طرح سؤال من قبل الكثيرين عن أين ذهبت أموال البترول؟
تحذيرات مع إرهاصات ظهور الأزمة:

 

  • فشلت محاولات الحكومة السودانية طيلة عام 2016 في السيطرة على الوضع الاقتصادي ووقف التدهور الكبير في سعر صرف الجنيه أمام الدولار وشح السيولة النقدية من العملة الصعبة وانفلات معدل التضخم والارتفاع الجنوني في أسعار السلع والمواد الأساسية.
  • دهمت السودانيين خلال العام الجاري الكثير من الأزمات من أزمة الوقود وغاز الطبخ إلى زيادة أسعار الخبز، وأثرت الأزمات المتعاقبة على حياتهم، وتشكلت الصفوف الطويلة في محطات الوقود وأمام صرافات البنوك وأمام المخابز، حتى باتت الصفوف كابوسا يؤرق السودانيين.
  • بعض دوائر الحكم في السودان، بدأت تستشعر في الآونة الأخيرة جدية الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد وتداعياتها المحتملة، ما جعل أصواتا من داخل الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني) تنطلق بالتحذير منها.
  • حذرت أصوات من داخل حزب المؤتمر الوطني بقيادة عمر البشير من آثار الأزمة الاقتصادية ومن (ثورة الجياع) ما لم يحدث تغيير جذري في الوضع الاقتصادي المتدهور وبسرعة لا تعرف التأخير.
  • مع إعلان الرئيس السوداني عمر البشير عن إجراءات تقشف شديدة، وإجراء التغيير الوزاري الكبير وهو الثاني الذي أجراه في حكومته على مدار أربعة أشهر، اتجهت الأوضاع في البلاد إلى مراحل أكثر صعوبة.الاستراتيجية الاقتصادية الجديدة التي أعلنها البشير يوم الإثنين 10 سبتمبر/أيلول، تضمنت تخفيض الإنفاق وتعهد أيضا بالتعامل مع الفساد وإصلاح الاقتصاد الوطني، ووعد بالمزيد من الدعم للطبقات الأفقر، وزيادة الإنتاجية والعائدات، وتمويل المخططات الزراعية.
  • يعد مجلس الوزراء الجديد رابع تغيير وزاري منذ الانتخابات العامة الماضية عام 2015. وكانت الحكومة السابقة قد عُينت في شهر مايو/أيار، بعد أن أقال البشير وزير الخارجية إبراهيم غندور، بعد أن قال أمام البرلمان بأن وزارته قد نفدت أموالها.
  • المعارضة السودانية بكل أطيافها رفضت التغييرات واعتبرتها لعبة تكتيكية، وقالت إنَ البشير يدير المناصب على حزب المؤتمر الوطني الحاكم، خاصة وأنه قد تم تعيين 5 من الوزراء السابقين في مناصب حكومية وبنفس الامتيازات السابقة، ما ينتفي معه “التقشف وخفض النفقات”.
  • انتقد الكثير من المراقبين تحركات الحزب الحاكم في السودان، الذي أهمل علاج المشكلات الاقتصادية التي بدأت تظهر بصورة جلية وخطيرة، وصبّ جل اهتمامه، لمحاولة ترشيح البشير لفترة رئاسية ثالثة، وخرق الدستور الذي وضعه الحزب الحاكم نفسه، بتحديد حكم الرئيس بفترتين رئاسيتين.
  • كان السودان قد مر بظروف اقتصادية صعبة خلال الأشهر الأخيرة على الرغم من الآمال التي انتعشت العام الماضي بعد رفع العقوبات الأمريكية المفروضة عليه منذ عام 1997. واعتبر البعض أنه ستعزِز من فرص الازدهار الاقتصادي للسودانيين.
  • لكن عوضا عن ذلك، أصبحت الطوابير الطويلة للحصول على الخبز والوقود وغاز الطهي وسحب الأموال المودعة لمقابلة الاحتياجات الضرورية مشهدا ثابتا في العاصمة الخرطوم وباقي الولايات السودانية وذلك منذ بداية هذا العام.
لماذا اندلعت الاحتجاجات؟
  • اندلعت الاحتجاجات في السودان من مدينة عطبرة شمال شرقي السودان يوم الأربعاء 19 ديسمبر قبل أن تمتد منها إلى ولاية القضارف، شرقي السودان، ومدن أخرى، ثم حطت رحالها في العاصمة الخرطوم وتوجت بمظاهرة حاشدة الثلاثاء بهدف تسليم مذكرة إلى الرئاسة تطالب بتنحي البشير.
  • المتظاهرون كانوا يحتجون على سوء الأوضاع الاقتصادية ويرفضون قرار الحكومة برفع سعر الخبز، إضافة إلى أزمات في الوقود والسيولة النقدية التي حرمت المواطن من حق سحب نقوده المودعة في البنك.
  • مع أن خروج السودانيين في مظاهرات احتجاجية كانت ضد الغلاء، فإن الكثير منهم خرجوا أيضا لأسباب تتعلق بغياب الحريات العامة والتضييق وسياسات الحكومة التي اعتبروها متخبطة وفي إدارة الملفات الوطنية والخارجية، دون استراتيجية واضحة.
ناقوس الخطر.. أزمة إثر أزمة:
  • يعتقد اقتصاديون أن الأزمة الاقتصادية في السودان نتجت عن سوء إدارة المال العام وترتيب الأولويات، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار ونسبة التضخم، وهو الوضع الذي يعيشه السودان خاصة بعد انفصال الجنوب الذي ذهب بـ(75%) من عائدات البترول.
  • يرجع مراقبون، الأزمات الاقتصادية إلى الفساد المستشري في المؤسسات والذي تبينت آثاره في الكثير من قضايا الفساد التي ظهرت إلى العلن في المؤسسات القيادية في الدولة وتم تقديم بعضها إلى محاكمات، لكن دون إصدار أحكام قضائية واضحة.
  • ويرجع آخرون كذلك السبب في قصور حملة الحرب على الفساد في بلوغ مراميها، إلى أنها لم تطل مراكز الفساد الكبير وبالتالي فإن مفعولها لم يكن ذا أثر كبير.
حل المعضلة السودانية:
  • دخلت المسألة السودانية الآن، منعطفا جديدا، بعد تفجر المظاهرات التي اندلعت يوم 19 ديسمبر وتوجت بموكب كبير غير مسبوق في قلب العاصمة الخرطوم وغير بعيد عن قصر الرئاسة، وكان الموكب يحمل رسالة اعتبرت كبيرة وغير مسبوقة تنادي بتنحي البشير.
  • يحتاج حل المسألة السودانية في هذه الفترة الحرجة، حلولا يجب أن تراعي ما خرجت من أجله الجماهير في كل بقاع السودان، وسقط فيها ضحايا من الشباب قتلى وجرحى واعتقل آخرون، على حكم امتد على مدى 30 عاما، لم يشهد فيه السودان، فعلا إيجابيا وإنجازا تحقق لصالح البلاد.
  • تقسم السودان في ظل الحاكم الحالي وذهبت خمس مساحته بعد انفصال الجنوب، في وقت تشتعل فيه الحروب في 3 مناطق من السودان، في وقت تشهد فيه المناطق الأخرى من السودان هجرة مخيفة من الريف السوداني وفقر وتفشٍ للأمراض والأوبئة.
  • تعتمد الحكومة لغة تخوين وتهديد تجاه كل معارض لسياستها، كما تتبنى خطابا دينيا، يجعل كل مخالف لها في خانة المخالف للدين الذي يريد هدم مشروعها “الحضاري” وتجير لهذا كتيبة من أصحاب المصالح من كتاب وصحفيين وإعلاميين ورجال دين وغيرهم.
المصدر : الجزيرة مباشر + وسائل إعلام