شاهد: ما لا تعرفه عن العالم الفلسطيني الشهيد فادي البطش

مطلع فجر السبت 21 أبريل/نيسان، توالت الرسائل تباعًا على الهاتف المحمول للسيدة الفلسطينية، إيناس حمودة (31 عامًا)، يطمئن مرسلوها على أخبارها وزوجها.

لم يكن من عادة أولئك الأصدقاء، الاطمئنان على الشابة إيناس، في مثل هذه الساعة المبكرة، وبإرسال هذا العدد من الرسائل دفعة واحدة، ما أثار الشك في نفسها، والقلق على زوجها العالم الفلسطيني، “فادي البطش”، الذي غادر المنزل لإمامة الناس في صلاة الفجر.

سريعا أجرت اتصالًا على هاتف زوجها، لكن لا صوت يأتي إلى مسامعها سوى رنين الهاتف، وما من أحد مجيب، على غير العادة.

أسرعت “إيناس”، الأم لثلاثة أطفال، نحو الشرفة، لتبحث عن تفسير لقلقها وشكوكها، وعدم إجابة زوجها على اتصالها، فوجدت الشرطة الماليزية والإسعاف، قد أحاطوا المكان، والناس متجمهرين.

ارتدت ثيابها، وهرولت خارج المنزل، وقالت: “كان الجميع يبكون، لقد كانوا في صدمة كبيرة، كلما سألت أحدهم ماذا يحدث وأين فادي، لا يجيبون، ويكتفون بالبكاء أو الصمت، أو الرد على استحياء”.

وبعد دقائق معدودة علمت “إيناس” بمقتل زوجها على يد مجهولين.

وقتل العالم الفلسطيني البطش أثناء خروجه من المسجد المجاور لمنزله في العاصمة الماليزيا كوالالمبور، برصاص مجهولين، كانوا يستقلون دراجة نارية، إذ أصابوه بنحو 14 رصاصة، أردته قتيلًا على الفور.

وولد البطش الذي يعمل محاضرًا في جامعة ماليزية خاصة، في مخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين شمالي قطاع غزة، وهو متزوج وأب لثلاثة أطفال.

وحصل على درجتي البكالوريوس والماجستير في الهندسة الكهربائية من الجامعة الإسلامية في غزة أواخر عام 2009، وعقب ذلك تمكن من الحصول على قبول الدكتوراه من جامعة “مالايا” الماليزية.

وبعد حصوله على درجة الدكتوراه في الهندسة الكهربائية وتحقيقه إنجازات علمية، سرعان ما حصل على منحة خزانة الحكومية (Yayasan Khazanah 2016) كأول عربي، وهي الأولى في ماليزيا من حيث جودة المنحة ومن أفضل الجوائز العالمية.

وتقول إيناس عن وقت الحادث إن زوجها “خرج كعادته لأداء الصلاة، لم أتوقع نهائيًا أن يستشهد في ماليزيا، كان دائما يطلب الشهادة من الله، ولكن كنت أعتقد أنه سينالها في غزة، وليس هنا”.

وتلقت إيناس، خبر مقتل زوجها بـ “القبول”، كما تصف لأن “الشهادة كانت حلمه”.

ووصفت إيناس زوجها بـ “الحنون جدًا، والرائع والطيب للغاية معها ومع أطفالها، رغم انشغالاته الكبيرة، إلا أنه لم يتأخر عن أسرته يومًا.. لم يكن يقصر معي كزوج وأب، يلبي كافة احتياجات منزله، بالرغم من مشاغله وأعبائه الكبيرة والكثيرة”.

وأضافت: “في ماليزيا لدينا يومان إجازة، أحدهما خصصه فادي بشكل كامل للعائلة، فيه كان يتفرغ لتلبية كافة احتياجاتنا، نخرج للتنزه وللتسوق، لم يكن يكلفني عناء التسوق، ونجلس نتسامر ونتحدث.. لقد كان يومًا للعائلة فقط، لم نكن نفرط به أبدًا”.

واستدركت: “كان يخبرني دومًا بأنه بجانبي في أي وقت، وليس في هذا اليوم فقط، ويقول لي إن رغبتي في أي شيء، أو كنت محتاجة لي، لا تترددي بالاتصال بي في أي وقت، وسآتيك فورًا”.

وتابعت: “كنت بعض الأوقات أتصل به لأستشيره في أبسط الأشياء، ويجيبني بكل رحابة صدر، كان معلمًا لي وناصحًا، وحريصًا على مصلحتي جدًا”.

وعندما أنجبت إيناس ابنتيها الأولى والثانية تقول “إنها توقعت أن يشعر زوجها بالحزن كما البعض، لكنه كان سعيدًا جدًا، ويقول لقد فتح لي بابًا جديدًا للجنة”.

وقبل اغتيال البطش بثلاثة أسابيع، قام بطلاء المنزل، وهمّت زوجته في تنظيف الأرضية من آثار الطلاء، فأخبرها بألا تفعل بل تذهب لتأخذ قسطا من الراحة، “فهذا عمله هو”.

وأكملت “لم يكن لديه مشكلة أبدًا في أن يبادر دوما في إرضائي إن حدث بيننا سوء تفاهم، وحتى وإن كنت أنا السبب به، كان يأتي ويقبل رأسي ويدي، ويقول لي أهم شيء بالنسبة لي أن تكوني سعيدة”.

وتزوج البطش في عام 2006، وكان شرطه في شريكة حياته، أن تكون حافظة للقرآن، حسب زوجته.

حياته العلمية وحبه للعلم

كان البطش طموحًا جدًا، يسعى للأفضل دومًا، لا يتوقف عن العلم وعمل الأبحاث المحكمة، وأيضًا في الصعيد الديني، كان حافظًا للقرآن الكريم، ومدرسًا له، وفق زوجته.

وأردفت: “كان محكّمًا في العديد من المجلات العلمية الأجنبية، ونشر 18 ورقة بحثية في مجلات محكّمة، وحصل على درجة الإجازة والسند في القرآن، وحصل على الكثير من الشهادات والعديد من الجوائز”.

وحصد البطش العديد من الجوائز، مثل جائزة الخزانة لأفضل باحث عربي، والمركز الأول في مسابقة “3 دقائق”، والتي يتحدث فيها المتسابقون عن أبحاثهم في ثلاث دقائق فقط.

وتقول إيناس بأنه كان يحثها دومًا على العلم “لم أكن أفكر في دراسة الماجستير، لكنه شجعني بشدة، وعندما أنهى الدكتوراة أصر على أن أحصل عليها أنا أيضًا”.

وبالفعل التحقت إيناس بطلبة الدكتوراة في مجال “طرق التدريس”، لكن اغتيال زوجها أوقف مشوراها العلمي، لكنها قالت إنها مصرة على إكماله.

وأكملت: “كان يقول لي أثناء الدراسة، ليس بالضرورة أن تنظفي المنزل كل يوم، أحضري عاملة لتساعدك في ذلك، ولا تعد الطعام يوميًا بإمكاننا طلبه من أحد المطاعم، المهم أن تتفرغي للدراسة”.

وتابعت: “كان يحب العلم كثيرًا، ويحب أن يتعمق فيه، وهذا ما كان يفعله معي ومع أطفاله وطلابه، وفي سبيل العلم مستعد فادي أن ينفق الكثير من الأموال، فمثلًا الرسوم المدرسية لابنتي الكبرى، مرتفعة، لكن عندما كان يدفعها كنت أشعر بأنه سعيد للغاية”.

وكان البطش كما تقول زوجته حريصا على صقل مهارات أبنائهم في المجالات كافة، وأن يجمعوا الكثير من العلوم، فقد كان يسجلهم في النوادي والدورات الدينية والترفيهية والثقافية.

وأنجب البطش ثلاثة أبناء، دعاء (6 سنوات)، وأسيل أربعة أعوام، ومحمد عام واحد.

وغادر البطش قطاع غزة في عام 2011، بهدف الحصول على درجة الدكتوراة، حسب زوجته.

موقف إسرائيل من البطش

وعن تصنيف بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية لـ”البطش”، بـ “مهندس حماس”، تقول إيناس “الرواية الإسرائيلية غير صادقة، فادي لا علاقة له بالعمل العسكري، أو السياسي، أو التنظيمي”.

وأكملت: “فادي إنسان مبدع طموح، مخترع عالم في مجاله، ربما علمه وأبحاثه هي التي أخافت إسرائيل منه، ولأنه ببساطة فلسطيني مسلم، إسرائيل تريد قتل هذه العقول فقط لا أكثر”.

ولم يسبق للبطش أن تعرض لأي تهديدات، ولم يكن في حسبان الزوجين بالمطلق أنه سيتم اغتياله، إذ قالت زوجته إنه “إنسان ذو شخصية محبوبة وودودة من قبل جميع من عرفه سواء مسلمين أو غير مسلمين.. لست أنا من كنت في صدمة ومفاجأة فقط، الكل تفاجأ بالخبر”.

حياته الدينية وعلاقته بالآخرين

وتستذكر إيناس عند حلول شهر رمضان، في أول عام وصلوا فيه إلى ماليزيا، حيث لم يجد مسجدًا قريبًا ليصلي فيه، غير مصلى كان شبه مهجور بالقرب من البيت.

وأكملت: “اتفق مع المسؤول عن المصلي، لإحياء الصلاة فيه، وقسموا الإمامة فيما بينهم، ونفذ عدة أنشطة فيه، وجميع الجيران يشهدون بأن البطش نجح في إحياء المكان إلى أعلى درجة”.

وأشارت إلى أن زوجها كان محبوبًا من الجميع، ضحوكًا، يتحدث لكل من هم حوله ويسأل عن أحوالهم، ولم يكن يفرق في معاملته للمسلمين وغير المسلمين من كلا الجنسين، أو بين المحجبة وغير المحجبة، لذا بكى الجميع عليه حين علموا باستشهاده.

ورغم انشغاله في علمه وعمله، فإنه لم يكن مقصرًا في مجال الدعوة إلى الإسلام، وتقول إيناس: “كان يُدرس الماليزيين والعرب القرآن ببعض قراءاته المختلفة، وحصل على السند والإجازة بالقراءة بثلاث روايات للقرآن، وكان يسعى للحصول على الرابعة، لكنه استشهد”.

ومنذ الصباح كان يتوجه البطش إلى الجامعة، ثم يعود للمنزل عند السادسة، ثم يخرج لصلاة المغرب، يعقد بعدها حلقة تعليم القرآن، في مؤسسة ماليزية مخصصة لذلك، وعقبها يتوجه إلى أحد المساجد لتعليم الناس هناك قراءة القرآن، إنه على هذا الحال من أكثر من عام ونصف العام.

ولفتت إيناس إلى “أن زوجها كان يشتكي من تعبه، إلا أنه يقول لها، فليكن هذا في سبيل إرضاء الله”.

المصدر : الأناضول