تركيا وصناعة الادارة الاقتصادية الناجحة

تحدي استمرار النجاح الاقتصادي الذي تحقق بتركيا على مدار 15 عامًا، فرض نمطًا من الإدارة الصارمة، التي لا تعرف المجاملات ولا الانتماءات الحزبية، أو سطوة رجال الأعمال. لذلك يعمل الجميع ليثبت جدارته بمنصبة في إدارة المؤسسة التي تولى أمرها.

الإدارة الاقتصادية في تركيا تعتمد على كفاءات الأشخاص، بغض النظر عن كونهم عملوا في مؤسسات دولية، أو مبعوثين من الاتحاد الأوربي أو المؤسسات الأمريكية، فوزير الاقتصاد التركي على سبيل المثال وباقي المجموعة الاقتصادية قد لا يعرفهم أحد خارج تركيا. ولكنهم استطاعوا أن ينتقلوا بالناتج المحلي الإجمالي خلال 2017 إلى معدلات إيجابية، مثلت صدمة للتوقعات التي بنيت على نظرة سلبية بسبب الأحداث السياسية مثل التعديلات الدستورية، فحقق الاقتصاد التركي في الربع الثاني معدل نمو قدر بـ 5.1%، ليتجاوز معدل النمو بالربع الأول والمقدر بـ 5%. 

ومنذ أيام تمت إقالة المسؤول عن إدارة الصندوق السيادي لتركيا، والذي يبلغ رأس ماله 40 مليار دولار، حيث لاحظت مؤسسة الرئاسة أن الصندوق لم يحقق أهدافه في العام الأول، فتم ندب رئيس بورصة إسطنبول ليدير الصندوق السيادي، ويمثل الصندوق السيادي لتركيا محورًا مهمًا حيث تستكمل به عناصر قوتها الاقتصادية من بين دول مجموعة العشرين، حيث إنها كانت الدولة الوحيدة من بين دول المجموعة، التي لا تمتلك صندوقًا سياديًا حتى العام الماضي.

لم تبحث الحكومة لمسؤول الصندوق السيادي عن الأعذار الداخلية، ولا التحديات الخارجية، ولا قصر المدة التي باشر فيها عمله، ولكن هناك مستهدفات خلال عام لم تتحقق، إذا لابد من البحث عن مسؤول جديد يحقق أهداف الصندوق في الأجل القصير.

  • منظومة واحدة

لم يكن قرار إقالة المسؤول عن الصندوق السيادي سابقة في تاريخ الإدارة الاقتصادية بتركيا على مستوى المؤسسات الكبيرة، ولكن منذ فترة لم تزد عن عام، تمت إقالة محافظ البنك المركزي التركي، الذي كان يصر على رفع معدلات الفائدة بالبنوك، وكانت مؤسسة الرئاسة وتحديدًا شخص أردوغان يرى عكس ذلك، من أن ارتفاع سعر الفائدة يعوق الاستثمار، في الوقت الذي تريد فيه تركيا الدفع بالاستثمار للخروج من التداعيات السلبية لأحداث السياسية التي مرت بها خلال فترة ما بعد انقلاب يوليو/تموز 2016 ثم التعديلات الدستورية.

بعد إقالة محافظ البنك المركزي وإفاده لدى منظمة التعاون والتنمية ممثلًا لتركيا، تحسنت مؤشرات الاقتصاد التركي نتيجة زيادة الاستثمارات، وانخفضت معدلات البطالة من 13% في يناير/كانون الثاني 2017 إلى 10.5% مايو الماضي، كما ارتفعت قيمة الليرة التركية أمام الدولار خلال الفترة الماضية، لتصل إلى 3.42 ليرة للدولار، بعد أن كانت 3.65 ليرة للدولار إبان تولى محافظ البنك المركزي المقال. 

  • مواجهة التحديات

علقت العديد من الحكومات العربية فشلها في مواجهات المشكلات والأزمات الاقتصادية على القضايا الإقليمية والدولية، أو زيادة المعدلات السكانية، ونجد على العكس، الإدارة التركية تتجاوز العديد من المشكلات التي تواجهها على الصعيد الإقليمي والعالمي، وتنحج في تحقيق معدلات نمو عالية، تعد الأعلى من بين الدول الأوربية، وكذلك في محيط منطقة الشرق الأوسط، ولو جردت اقتصاديات منطقة الشرق الأوسط من مساهمة النفط في معدلات النمو، لكان الفارق لصالح تركيا بمعدلات عالية مع بلدان منطقة الشرق الأوسط.

ويأتي ذلك في الوقت الذي تواجه فيه تركيا تهديدات ألمانيا ودول أوربية أخرى بممارسة ضغوط اقتصادية على تركيا، والتلويح بورقتي السياحة والاستثمارات الأجنبية، أو استنزاف تركيا بورقة الأكراد على حدودها مع العراق وسوريا، أو جماعات العنف من داعش وغيرها.

وتعد تركيا الدولة الوحيدة من بين دول منطقة الشرق الأوسط التي تشجع أفرادها على كثرة الإنجاب، على الرغم من أن عدد سكانها تجاوز حاجز الـ 80 مليون نسمة. بينما نجد مثلًا قائد الانقلاب العسكري بمصر يجعل من الزيادة السكانية والإرهاب صنوان.

تركيا لا تدعو مواطنيها لزيادة الإنجاب كدعاية سياسية، ولكنها تقدم لهم دعمًا ماليًا مع كل طفل يتم إنجابه، وثمة مزايا أخرى مع زيادة الأطفال لدى الأسرة، فالحكومة التركية منذ عام 2015، تقدم منحة 300 ليرة للمولود الأول للأسرة، و400 ليرة للمولود الثاني، و600 ليرة للمولود الثالث. فضلًا عن منح الأم فترة للعمل الجزئي لمدة شهرين، بعد انتهاء إجازة الوضع التي تحصل عليها.

  • منهج النجاح

في الدول العربية لا تسمع إلا الحديث عن المشكلات، وأنها متجذرة، وأن علاجها يحتاج إلى وقت طويل، ولابد من الاستعانة بالخارج وزيادة القروض، بينما في تركيا تسمع عن النجاح، وفرص المزيد منه، وأهداف تتناسب مع تطلعات تركيا الإقليمية والدولية.

 وحديث المسؤولين الأتراك ليس حديثًا إعلاميًا، ولكنه حديث تترجمه الأرقام. ففي الوقت الذي تتحدث فيه مصر مثلًا عن أهمية أفريقيا وضرورة زيادة التعاملات الاقتصادية والتجارية معها، نجد تركيا تتعامل بمنطق الفعل، فتتجه لزيادة فعلية على الأرض من خلال وفود رجال أعمال بمشروعات على الأرض، والفوز بتنفيذ مشروعات بنية أساسية، ويسبقهم العمل الخيري، والذي يعد أداة تركيا الناعمة، التي فقدتها مصر منذ عقود، حيث تركت أفريقيا لكثير من القوى الإقليمية والدولية.

لا يعني ما مضى أن تركيا لا تواجه تحديات، ولكنها تواجه التحديات بطريقة مختلفة عن بقية بلدان الوطن العربي، حيث تلتزم ببرامج لمواجهة هذه التحديات ومحاسبة المسؤولين، وفي أوقات مختلفة تطالعنا وسائل الإعلام بتغيرات في الحكومة أو الحزب الحاكم، بما يعكس مبدأ المحاسبة والمساءلة. 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه