الشّهيد عبد الله الحامد؛ سيحفرُ النّهرُ مجراه

 

الخاتمة الاستثنائيّة لا تليقُ إلّا بالأشخاص الاستثنائيّين؛ فالمنيّةُ فجر الجمعة في أول يومٍ من شهر رمضان المبارك في سجون الطّغيان والاستبداد ليست خاتمةً عاديّةً أبدًا، ويستحقّها أبو بلالٍ لأنّه لم يكن رجلًا عاديًّا أبدًا.

ويلٌ للذي فسّرَ وأظهرَ

فأبْحَرْنا معَ السلطانِ

في الخلجانِ إذْ أَبْحَرْ

 

وردّدنا الذي تُلقي

إذاعتُنا لكيْ نُؤجَرْ

 

وجدّدنا نصوصَ الدينِ

إذ فازَ الذي خيّر

فللقرآنِ تحفيظٌ

وويلٌ للذي فَسّـر

 

وإدغامٌ وإخفاءٌ

وويلٌ للذي أظْهَـر

 

وقالَ فقيهُكَ الرسمي

منْ يصبرْ فقدْ يَظْفَر

 

ألينوا نصحهُ سرّا

وحيّوا كلّ من يَقهر

 

ولا ينجو منَ البلوى

سوى منْ هانَ واستصْغَرْ

 

 

وجاءَ فقيهُكَ السامي

فَجَهّلَ كلَّ مَنْ فَكّر

 

فمَنْ يأمُرْ بمعروفٍ

ومنْ يَصْدَعْ ومَنْ يَجْهَرْ

 

بهذه الأبيات من قصيدته الماتعة التي أسماها “عظيمُ الرّوم والقيصر السّعودي” جلّى الدّكتور عبدالله الحامد حقيقة التديّن الزّائف الذي تسعى سلطات الاستبداد إلى ترسيخه عبر إيهامها النّاس بأنّها راعية حمى الدّين ورافعة شعار الإسلام، وما كان الإسلام إلّا وسيلتها الأكبر إلى الاستبداد السياسيّ وخنق الشّعب المسكين.

إنّه “توأم القمع السّعوديّ” كما يحلو للدّكتور الحامد أن يسمّيه؛ الاستبداد السّياسيّ والاستبداد الدّينيّ اللّذان يخدم بعضهما بعضًا في التّحكّم برقاب العباد، فالاستبداد السيّاسيّ ما فتئ يمتطي الفقهاء والعلماء الذين صنعهم على عينه ليحوّلوا الدّين إلى وسيلة من وسائل تشريع الاستبداد وترسيخ عبوديّة الشّعب لوليّ الامر.

كان الحامدُ أمّةً في مواجهة تدجين الدّين لصالح الحاكم، فكان يعلن خطورة الاستبداد الدّينيّ ويحارب بلا هوادةٍ القمع باسم الدّين، لا يواربُ ولا يلمّحُ  في ذلك بل هو رغم عظيم بلاغته في إمكان إيصال ما يريدُ تعريضًا وتلميحًا وتوريةً غيرَ أنّه كان أصرحَ ما يكون ومباشرًا مثل فلق الصّبح؛ فأعظم البلاغة في وجه الاستبداد ما كان بلا محسّناتٍ بلاغيّة ولا صورٍ تجميليّة، بل جاء صارمًا مثل ضربةٍ بسيف تفلقُ هامةَ الباطل.

لقد كان الحامدُ حربًا على فقهاء القصور وعلماء التديّن المغشوش ودعاةَ الاستبداد، لقد كان حربًا على الأصنام الجديدة وسدنتها؛ الأصنام التي قال عنها فيلسوف الإسلام محمّد إقبال:

“إنّ كعبتَنا عامرةٌ بأصنامنا، وإنّ الكفر ليضحك من إسلامنا، شيخُنا قامرَ بالإسلام في عشقِ الأصنام، هو في سفرٍ دائم مع مريديه، وفي غفلةٍ عن حاجات أمته، ومفتينا بالفتوى يتاجر”

الفريضة الغائبة

وكذلك كان عبد الله الحامد يكافح على جبهة أخرى مقابلةٍ لتدجين الدّين لصالح السّلطان، وهي جبهة الغلوّ والإفراط، فكان يعلن على الدّوام أنّ الفريضة الغائبةَ هي الجهاد السّلميّ.

وقد حرص على استخدام مصطلح “الفريضة الغائبة” الذي اجترحه محمّد عبد السّلام فرج ليكون عنوان كتابه الذي يؤصّل فيه لمفهوم الجهاد لدى التيّارات الجهاديّة، قبل أن يتمّ إعدامه على خلفيّة اغتيال السّادات.

فالفريضة الغائبة عند الحامد هي الجهاد السلميّ الذي لا يراه مناقضًا للجهاد العسكريّ بل هما صنوان، على أنّ الجهاد السلميّ عنده هو الأصل في مقارعة الظّلم والطّغيان والاستبداد، وجهاد الكلام يفوق جهاد الحسام؛ حيث يقول:

“هذا الحديثُ يؤكّد أهميّة بناء الثّقافة السياسيّة المدنيّة، التي تدلّ النّاس على أنّ الجهاد السلميّ صنوُ الجهاد العسكريّ، لأنّ الأمّة تحتاجُ إلى الجهاد السلميّ طوالَ الحياة، أمّا الحربي فمخصوصٌ بدفعِ عدوانِ غزاة فهو في أوقات مستثناة”

ويقولُ بين يدي شرحه لأسباب تفضيله جهاد الكلام على جهاد الحسام: “يا شبابَ الإسلام؛ يا طلّاب الأجر الأكبر: لماذا فاقَ فارسًا مقدامًا، مدرَّبًا على فنون الحرب، إنسانٌ عاديٌّ جدًا، وقد يكونُ رجلًا ضعيفًا وقد يكون امرأةً عاديّة، وقد يكون ضعيف الجسم والحول، وقد يكون مهمّشًا محتقرًا مستضعفًا، وليس من الفقهاء والعلماء ولا من الزهاد؟ لأنّه لم يحتقر نفسه، بل صاح بالطّاغية: اعدل أو اعتزل”

فكان الحامد عنوان رشدٍ في بيئةٍ تعجّ بالتّيه الفكريّ المتناقض الصّارخ بين التّكفير التدجينيّ والتّكفير التّفجيريّ، وأيقونةَ اعتدالٍ في أرضٍ تتلاطم فيها أهواء الإفراط والتّفريط المتشاكسين، ولعمري إنّ هذا لهو الجهاد الأكبر أن يحفرَ النّهرُ مجراه في جلمود غير عابئٍ بقسوة الطريق ولا يائسٍ من تشاكس الأغيار في مواجهته.

الكلمة أقوى من الرّصاصة

جعل الحامد أحد أبرز كتبه بعنوان “الكلمة أقوى من الرّصاصة” الذي يؤصّل فيه للجهاد السلميّ في مواجهة الطّغيان والاستبداد.

ويقول في بعض مواضع كتابه: “لقد هاجمَ الطّاغية الكلمةَ وأصحابَها، كما يهاجم وحشًا كاسرًا، أو جيشًا غازيًا، لما لها من قوّة، ولذلك اعترف أكثر من طاغيةٍ، بأنّه لا يحسّ بتفرّده في الحكم ما دام المصلحُ الفلاني ينبضُ ويومض، ولذلك برَّر أحدُ سلاطين الجور في نجد قتلَه أحد الفقهاء المصلحين فقال ما معناه: كيف لا أقتُله وهو ينقض بالقول كلّ ما فتلت من فعل؟!

وماتَ السّلطان الجائر، وبقيَ موقفُ الفقيه، لأنّ كلمة الحقّ المكتوبة بالدم ليست نصًّا مخطوطًا بماء الذّهب في مكتبة التراث، إنّما هي روحٌ شفّافة يمنحها الصّبر والجهاد والاستشهاد هيئةَ طيرٍ محلّق في السماوات، فتكتسي أجنحة وريشًا، وتحلّق في الأعالي فوق الوهاد، فتحدّق إليها العيون، وتخفقُ لها القلوب، فتكون القدوة الحسنة.

 وبذلك يصبحُ الضّعيف الأعزل، ذلك المرمي بين أرجل بوليس السّلطان، بطلًا شاكي السّلاح، يرسم بدمه وصبره طريقَ خلاص الأمّة، ويضع لافتة ًكتب عليها: هذا طريق الكرامة”

والكلمة أقوى من الرّصاصة لأنّها تقوم بأربعة أدوارٍ يفصّل الحامد فيها القول في كتابه، وهي: تعرية الأوضاع الفاسدة؛ فالطاغية ينهزم في جولات تكشف ستره أمام الناس

وتعرية الطاغية أمام ضميره؛ فمن المهم أن يتعرّى الفاسدون أمام ضمائرهم

وكشف ستر الفقهاء والقضاة المندمجين في الحكم العضوض، وتعرية فقهاء الظّلام ومثقفيه من حراس الاستبداد من الخادعين المغضوب عليهم، والمخدوعين الضالين العميان.

وثمة دورٌ رابع هو شقُّ طريق النجاح للجهاد السلمي، بإيقاظ الجماهير المخدّرة، التي أوهمها فقهاءُ الطّغيان ومثقّفوه أنّ فقدانها العدل بسببِ ذنوبها، وأنّ صبرها على الطغاة إنما هو من “التكفير” وقالوا لها: لا بدّ من أن تنسحقي تحت أقدام الطّغاة لتكفّري عن “خطاياك” ولتحصدي الكرامة في الدار الآخرة.

انطلق النّهرُ في مجراه

لا يستطيعُ طغاةُ الأرض جميعًا أو يوقفوا نهرًا حفرَ مجراه بالدّم، بدمِ قادته الذين كانوا في الميادين لا في الأروقه “فجهادُ الملك العضوض لا يكتَب في رواق، بل في الميادين والأسواق” كما قالَ الحامد وفعل.

قد يملك الطّاغية تأخير وصول النّهر إلى مصبّه، وقد يعمد إلى محاولات تحويل مجراه، ولكنّ الدّم أقوى من الطّغيان، والشّهداء أبقى من المستبدّين.

إنّ النّهر يحفر مجراه بدماء الشّهيد جمال خاشقجي الذي قال كلمته ومشى، فبقيت الكلمة تحفر في مجرى النّهر عميقًا من حيث لا يحتسب الطّاغية،

والنّهر يحفر مجراه بدماء الشّهيد عبدالله الحامد الذي عاش حياته مفعمًا بمصطلح سيّد الشّهداء الذي يقول كلمته عند سلطان جائرٍ فكان ممّن قالوا كلمتهم بلا هوادة في وجه الطّاغية، وعاش حياتَه وهو ينظّرُ وينظرُ إلى صورة الغلام الذي علّم قاتله أن يقتله “باسم ربّ الغلام” فصاحت الجماهير “آمنّا بربّ الغلام” وستصيح الجماهير يومًا وهي تستكملُ حفرَ المجرى ليبلغ النّهر منتهاه “آمنّا بربّ الحامد” 

 

 

 

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه