الأولوية الغائبة بالجمهورية المصرية الجديدة

بينما كان رئيس الوزراء المصري يرافقه عدد من الوزراء وكبار المسؤولين، يفتتح قاعة الموسيقى بمدينة الفنون والثقافة بالعاصمة الإدارية الجديدة السبت الماضي، والتي أحيا حفل افتتاحها الموسيقار العالمي ريكاردو موتى بمرافقة أوركسترا فيينا الفيلهارمونى، كانت آلاف النساء في ريف صعيد مصر تخرج من بيوتها للعراء كالمعتاد لقضاء الحاجة، نظرا لخلو بيوتهن من وجود دورات مياه.

وجاء احتفال افتتاح قاعة الموسيقى عشية احتفال العالم باليوم العالمي لدورات المياه في التاسع عشر من نوفمبر من كل عام، حيث أصدر الأمين العام للأمم المتحدة بيانا، جاء فيه أنه يموت كل يوم سبعمائة طفل دون سن الخامسة، بسبب أمراض مرتبطة بالمياه ومرافق الصرف الصحي غير المأمونة.  وذكر أن كل دولار يستثمر في دورات المياه والصرف الصحي، يُسترد ما يصل إلى خمسة دولارات من الادخار في التكاليف الطبية وتحسين الصحة وزيادة الإنتاجية والتعليم وفرص العمل.

وظاهرة خلو كثير من بيوت ريف الصعيد من وجود مراحيض معروفة للجهات المانحة منذ عقود، حيث يقضى الصغار حاجتهم أمام البيت، ويذهب الرجال لدورة مياه المسجد، أما النساء فتنتظر حتى المساء لقضاء الحاجة في أماكن محددة، ممنوع على الرجال حسب الأعراف السائدة الاقتراب منها، حتى أنه يتم تكسير لمبات الإضاءة في أعمدة الكهرباء، المارة بتلك الطرق المؤدية إلى أماكن قضاء الحاجة للنساء إمعانا في التستر.

 اشتراك الأسر بالمرافق داخل البيوت

وكانت كثير من الجهات المانحة قد اهتمت بتلك الظاهرة وقامت بمشروعات لإقامة دورات مياه بتلك البيوت الخالية منها، مثل اليونيسف ومعهد الثقافة البلجيكي وهيئة كير، كما قام جهاز بناء وتنمية القرية المصري بجهد مماثل لكنه توقف لقلة الاعتمادات، لتبقى المشكلة قائمة، وهي مشكلة غير قاصرة على ريف الصعيد بل تمتد إلى الوجه البحري.

وأذكر أنى صاحبت الدكتور على المصيلحى وزير التموين الحالي، عندما كان وزيرا للتضامن خلال فترة مبارك في جولة بمساكن الكفراوى والعزاوى خلف برج نايل سيتي مباشرة بكورنيش بالقاهرة، وبإحدى الحجرات سألت إحدى السيدات أمامه أين تقضى حاجتها؟ فأشارت بحياء إلى صفيحة فارغة بأنها تقضى حاجتها بها نهاراً ثم تفرغ ما بها في بالوعة المجاري ليلا..

وهي مشكلة مختلفة عن قضية أخرى تتمثل في “إسكان الشرك”، حيث تسكن عدة أسر في شقة واحدة بحيث تقوم كل تلك الأسر باستخدام دورة مياه الشقة، وأحيانا تكون دورة المياه بالدور الأرضي لتستخدمها كل الأسر المقيمة بكل شقق المنزل، وهو أمر شائع بالكثير من مساكن العشوائيات بغالبية المدن المصرية.

وذكرت بيانات تعداد السكان لعام 2017 والذي حضر حفل إعلان نتائجه رأس النظام المصري في الثلاثين من سبتمبر 2017، والتي جاء فيها أن 8 ملايين و85 ألف شخص يستخدمون حمامات مشتركة، وأن 7 ملايين و675 ألف شخص يستخدمون مطابخ مشتركة.

وعقب رأس النظام المصري في كلمته بالحفل بتطلعه لقيام مشروعات الإسكان الاجتماعي التي تنفذها الدولة، بحل هذه المشكلة الخاصة باستخدام عدد من الأسر مرافق مشتركة، كما وجه بتشكيل لجنة عليا من الحكومة والجامعات المصرية لدراسة وتحليل بيانات التعداد.

وبعد مرور أربع سنوات على تلك التصريحات يمكن القول إنه لم يتم شيء، لأن أسعار الوحدات السكنية التي يبنيها مشروع الإسكان الاجتماعي تعجز عنها تلك الأسر الفقيرة، كما لم نسمع عن أي إجراء رسمي تجاه مشكلة اشتراك الأسر في المرافق داخل الشقق، وبالطبع لم يتم شيء بقضية خلو البيوت من دورات المياه.

   قلة دورات المياه العمومية بالصعيد

والمشكلة الثالثة التي اتخذت فيها الدولة بعض الإجراءات هي توصيل الصرف الصحي إلى البيوت، وهى مشكلة ثالثة حيث كشفت بيانات تعداد السكان المنشآت لعام 2017 عن أن نسبة الأسر المتصلة بالشبكة العامة للصرف الصحي بلغت 56 %، وهى نسبة متوسطة تزيد معدلاتها بالمحافظات الحضرية والوجه البحري، وتنخفض معدلاتها بمحافظات الوجه القبلي (الصعيد) .

فقد بلغت نسبة الأسر المتصلة بالشبكة العامة للصرف الصحي 15.5 % فقط فى محافظة قنا جنوب البلاد، و20 % بمحافظة مرسى مطروح الحدودية، و20 % بمحافظة أسيوط بالجنوب، و21 % بمحافظة المنيا بالجنوب و25 % بمحافظة الأقصر بالجنوب، و31 % بمحافظة البحيرة ذات الكثافة السكانية المرتفعة بالوجه البحري بشمال البلاد.

إلا أن هناك مشكلة مجتمعية رابعة متصلة بذلك، وهي قلة عدد دورات المياه العمومية بالشوارع، والتي يحتاج إليها الناس خاصة كبار السن، وكذلك أصحاب الأمراض التي تتطلب كثرة التبول مثل مرض السكرى وأصحاب المشكلات بالبروستاتا والمصابون بالتهاب المثانة الخلالى، والمصابون بعدوى المسالك البولية والمصابون بالقلق والتوتر وخلال فترة الحمل، كما يحتاجها المغتربون المترددون على مدن المحافظات، خاصة مع إغلاق دورات مياه المساجد فى غير أوقات الصلاة.

وكشفت بيانات جهاز الإحصاء الحكومي عن بلوغ عدد دورات المياه العمومية خلال عام 2020 نحو 1268 دورة مياه، منها 759 دورة للرجال و509 دورات  للنساء، والغريب أنه رغم النمو السكاني المستمر فقد انخفض عدد دورات المياه العمومية بنحو 190 دورة عن عام 2005.

فقد انخفض العدد بالقاهرة من 210 دورات إلى 125 دورة، وبالٍإسكندرية العاصمة الثانية من 156 دورة إلى 80 دورة، وبالجيزة من 32 دورة إلى 23 دورة، وبمحافظة الشرقية من 67 دورة إلى 41 دورة، بينما زاد عدد الدورات ببعض المحافظات خلال فترة المقارنة مثل محافظة المنيا التي ارتفعت إلى 65 دورة مقابل 43 دورة قبل 15 عاما، كما زاد العدد في محافظة الدقهلية.

لكن تظل المشكلة قائمة بجميع المحافظات عدا بورسعيد فقط، بالنظر إلى قلة عدد الدورات بالمقارنة لعدد السكان، ففي محافظة بنى سويف البالغ سكانها 3.490 مليون شخص ومع وجود سبع دورات فقط يصبح المعدل وجود دورة لكل 499 ألف مواطن، تليها محافظة الجيزة السياحية بمعدل 405 آلاف مواطن لكل دورة، ومحافظة قنا 390 ألف مواطن للدورة، ومحافظة اسيوط 288 ألف مواطن للدورة ومحافظة الشرقية 189 ألف مواطن لكل دورة مياه عمومية.

وهكذا تحتاج القضية ذات المكونات الأربعة: خلو بيوت من دورات مياه، ودورات مياه مشتركة داخل البيوت، ودورات مياه عمومية بالشوارع، وتوصيل للصرف الصحي للمنازل، إلى اهتمام ومخصصات مالية أكبر، وتوجيه الجهات المانحة للاهتمام بها، فهذا أجدى بيئيا وصحيا وحضاريا من نفقات كثيرة يتم إهدارها على أمور أخرى أقل أهمية للمجتمع.

المصدر : الجزيرة مباشر