الدوافع الخفية للمصالحة التركية الإماراتية

تماشيا مع المتغيرات السياسية التي طالت الكثير من العلاقات والتحالفات الدولية مؤخرا وانعكست على قضايا وملفات المنطقة، وجدت العديد من دول الشرق الأوسط نفسها مضطرة إلى إعادة ترتيب أوراقها، ومراجعة خريطة تحالفاتها، وإعادة تقييم مواقفها، وضمن هذا الإطار يمكن تقييم الزيارة الرسمية التي قام بها مؤخرا محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي، إلى أنقرة، ولقائه مع الرئيس رجب طيب أردوغان.

فالسبب في هذا يرجع إلى العزلة التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية على الإمارات منذ وصول إدارة الرئيس جو بايدن إلى السلطة، ورغبته شخصيا في كبح جماح الطموحات السياسية لبن زايد والتصدي لمحاولاته الرامية إلى لعب دور أكبر من حجمه على الساحة السياسية الدولية عبر التوسع إقليميا، من خلال إثارة المشاكل وخلق القلاقل وفرض مواقف ورؤى على شعوب المنطقة لا تخدم طموحاتهم، ولا تصب في صالح قضاياهم المصيرية.

ومما أسهم في زيادة تلك العزلة تصاعد الخلافات في وجهات النظر بينه وبين كل من الرياض والقاهرة حليفيه السابقين، فيما يخص العديد من الملفات الإقليمية المهمة، وهي الخلافات التي خرج بعضها إلى العلن، الأمر الذي زاد من عزلته، وشعوره بالبقاء بمفرده دون حليف أو داعم حقيقي يشد من أزره..

مما دفع أبو ظبي إلى التراجع قليلا عن مواقفها، والعمل على إعادة حساباتها، والسعى بكل جهدها لفك تلك العزلة ولو جزئيا، ومحاولة الإبقاء على ما تبقى لها من نفوذ من خلال ترتيب علاقاتها الخارجية، عبر الابتعاد بها عن الملفات السياسية المتفجرة، والاعتماد فقط على الاقتصاد كمدخل جديد من شأنه أن يؤمن لعلاقاتها الاستدامة المطلوبة التي تسعى إليها، ويؤسس لها تعاون سياسي وأمني أكثر قوة وصلابة مع مختلف دول المنطقة..

وهو ما يمكن رصده بوضوح في النتائج التي أسفرت عنها زيارة بن زايد لأنقرة، حيث وقع الجانبان 10 اتفاقيات تخص مجالات التكنولوجيا والطاقة والمصارف والبيئة والنقل، إلى جانب الإعلان عن تأسيس صندوق لدعم الاستثمارات الإماراتية في تركيا بقيمة عشرة مليارات دولار أمريكي.

وهي النتائج التي جاءت على هوى الأتراك، ولاقت ترحيباً كبيراً من جانب السياسيين والاقتصاديين على حد سواء، الذين استقبلوا ما تم الإعلان عنه بارتياح بالغ، حتى ذهب البعض منهم إلى الحديث عن أن صفحة الماضي بخلافاتها تم طيها بالكامل، وأن البلدين دخلا عهدا جديدا يتسم بالأخوة والتوافق.

الأزمة الاقتصادية

قد يبدو من المنطقي فهم الحفاوة التي أبداها الأتراك تجاه نتائج زيارة بن زايد لأنقرة، نظرا لما تعانيه البلاد من أزمة اقتصادية صعبة، خصوصا وأنه فور أن وطأت عجلات طائرة الرجل أرض مطار أنقرة ارتفع سعر الليرة التركية أمام الدولار، فتركيا تعاني أزمة اقتصادية مستمرة منذ 2018، ورغم كل الجهود والمحاولات الحثيثة التي بذلتها الحكومة ومسؤولو الملف الاقتصادي في البلاد عبر تنويع استراتيجية التعاطي مع قطاعات الصناعة والسياحة وفتح أسواق جديدة لتصدير المنتجات التركية بمختلف أنواعها، إلا أن ذلك لم يُخرج البلد من أزمتها بشكل كامل.

صحيح أنه لا يمكن إنكار أن تلك الإجراءات خففت من حدة التداعيات الخطيرة التي تنبأت بها المؤسسات الاقتصادية العالمية لتركيا في ظل استمرار أزمتها، لكن الأزمة ما زالت تضغط على حياة المواطنين نتيجة ارتفاع معدلات التضخم، الأمر الذي أدى إلى زيادة أسعار السلع الأساسية، وارتفاع نسب البطالة، إلى جانب تأثيرات جائحة كورونا على العديد من الصناعات، والذي أدى إلى انخفاض معدلات النمو، نتيجة اضطرار العديد من أصحاب قطاعات الأعمال المتوسطة والصغيرة إلى الإغلاق، إلى جانب الانخفاض الكبير في قيمة الليرة التركية، التي فقدت ما يقارب الأربعين في المئة من قيمتها أمام العملات الأجنبية.

جميعها عوامل تشير إلى أن قبول أنقرة لمبدأ المصالحة مع أبو ظبي سببه الرئيس أزمتها الاقتصادية، وهو ما بدا واضحا فيما أدلى به المسؤولون الأتراك من تصريحات، تصب جميعها باتجاه تنحية الخلافات السياسية جانبا، لصالح التركيز على التعاون الاقتصادي، وما يمكن أن يسفره عنه هذا التعاون من تبادل تجاري هائل خلال المرحلة المقبلة.

مرحلة تعي القيادة السياسية في أنقرة أنها في أمس الحاجة إليها الآن لمواجهة ضغوط الأزمة الاقتصادية، ووقف تدهور سعر صرف الليرة، والحد من الارتفاع المتزايد لمعدلات التضخم وزيادة الاسعار، الأمر الذي من شأنه أن يجعلها أكثر قوة وصلابة في مواجهة حل مشاكل مواطنيها، والتصدي لمحاولات أحزاب المعارضة الراغبة في تأليب الشارع عليها، ودفعها دفعا للرضوخ لمطالبها والقبول بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة استغلالا لتداعيات هذه الأزمة الاقتصادية.

مرحلة اختبار النوايا

إلا أن الحديث عن طي صفحة الماضي، ونسيان الخلافات السياسية التي تحدث عنها البعض يبدو أمراً يفتقد للموضوعية، بل ويخالف المنطق، إذ لم يتحدث أحد عن حدوث اتفاق بين الدولتين بشأن أيًّا من الملفات والقضايا السياسية المختلف عليها بينهما، كأحد النتائج التي أفرزتها زيارة بن زايد إلى جانب النتائج الاقتصادية التي تم تسليط الضوء عليها، مما يعني أن خلافاتهما السياسية المتعلقة بالقضايا الإقليمية ما زالت عالقة، بل وتحتاج إلى مزيد من الوقت والتباحث وعقد لقاءات ثنائية دبلوماسية واستخباراتية دائمة، خصوصا ما يخص منها سوريا وليبيا واليمن، إلى جانب تدخلات أبو ظبي في ملف شرق المتوسط.

ومن هنا يمكن القول إن التحديات الخطيرة التي تواجهها الدولتان داخلياً وإقليمياً ودولياً دفعتهما دفعا إلى ترجيح جانب التهدئة والتعاون، والعمل على تجميد القضايا والملفات الخلافية تحقيقا لمصالح آنية يسعى كل منهما للوصول إليها، ووقف نزيف الخسائر الذي تسببت فيه مرحلة التصادم بينهما التي استمرت على مدى عقد كامل، والتركيز أكثر على التعاون الاقتصادي كخطوة أولى لتطبيع العلاقات المتدهورة بينهما.

ولهذا يمكن اعتبار أن المرحلة المقبلة في العلاقات بين أنقرة وأبو ظبي ستكون بمثابة اختبار لنوايا كل طرف منهما تجاه الطرف الآخر، والوقوف على أسلوب تعاطيه مع القضايا الخلافية بينهما، لتقييم النتائج أولا بأول وتحديد إلى أي مستوى يمكن أن تصل علاقاتهما، ومدى قدرة هذه العلاقة على الاستمرار والصمود لاستشراف ما يمكن أن يكون عليه الوضع في المستقبل.

المصدر : الجزيرة مباشر