قمّة الديمقراطية.. بين البروباغندا والواقع

الرئيس الأمريكي

 

(1)

دون الخوض في أخلاقيات إبادة مواطني القارّة الأصليين ممّن سمّتهم أمريكا الهنود الحمر، فقصة الولايات المتحدة غير مسبوقة تاريخيًّا، فهي دولة لم يمر على تأسيسها قرنان ونصف القرن من الزمان، ومع ذلك فهي تتسلّط على شعوب ذات حضارات وإمبراطوريات ضاربة بجذورها في التاريخ الإنساني، وفرضت هيمنة على الكرة الأرضية باقتصاد وجيش هما الأقوى وموارد طبيعية ووفرة استثنائية، حتى أصبحت أرض الفرص وجنة الطامحين في الحياة على أرض الأحلام.

بعد الحرب العالمية الثانية واقتحام الولايات المتحدة وتسيّدها الساحة الدولية، بدأ الرؤساء الأمريكيون يشعرون أن لديهم القوّة والقدرة على فرض السيطرة على المستقبل وتوجيه المسار ليس لبلدهم فقط ولكن للعالم أجمع، وبدا هذا واضحًا في خطب التنصيب التي حملت رسائل بعينها للداخل والخارج.

وإذا استحضرنا من التاريخ وقائع سبقت اليوم بـ60 سنة بالتمام، فسنجد خطاب تنصيب (جون كيندى) عام 1961، وما تضمّنه من توصيف أخلاقي لمهمّة دولته ورئاسته ،وكأنها الدفاع عن الحرية أثناء الحرب الباردة بين المعسكر الشرقي الشيوعي والغربي الرأسمالي حينذاك، وقال فيها:

“إن ما نشهده اليوم ليس مجرّد احتفال بانتصار حزب، بل احتفال بالحرّية، وهي بداية وغاية في حد ذاتها، حرّية ترمز إلى التجديد وكذلك التغيير. لِندَعْ كل أمّة -سواء كانت تتمنى لنا السعادة أو الشقاء- تعلم بأننا سندفع أيّ ثمن، وسنتحمّل أيّ عبء، وسنواجه أيّ صعوبات، وسندعم أيّ صديق، وسنعارض أيّ عدو سعيًا لضمان نجاح الحرّية وبقائها، ونحن نتعهّد بذلك وأكثر منه”.

وبعد ستة عقود، جاء الرئيس الحاليّ (جو بايدن) ليركّز في خطاب تنصيبه على التوصيف الأخلاقي لمهمّة دولته ورئاسته، وكأنها الدفاع عن الديمقراطية، وقال: “هذا يوم أمريكا. هذا يوم الديمقراطية، يوم يُشكّل التاريخ ويُمثّل الأمل، يوم التجديد والعزيمة. بعد اجتياز اختبارات قاسية على مر العصور، واجهت أمريكا مرّة أخرى اختبارًا جديدًا. وقد ارتقت إلى مستوى التحدّي. اليوم، نحتفل بانتصار ليس لمرشح بل لقضية الديمقراطية. لقد سُمع صوت الشعب، واستُجيب لإرادته. لقد تعلّمنا مرّة أخرى أن الديمقراطية ثمينة، وأنها هشّة. وفي هذه الساعة -يا أصدقائي- سادت الديمقراطية”.

(2)

وعلى هذا، يبدو التوصيفان التاريخيان لمهمّة الرئيسين كيندي وبايدن: الدفاع عن الحرّية والديمقراطية، بحسبانهما قيمًا أصيلة في المجتمع الأمريكي، لكنهما في الحقيقة مجرّد شعارات برّاقة وجذابة، ولنطرح سؤالًا عن القديم لنفهم الجديد: هل حقق كيندي وعوده بحماية الحرّية والدفاع عنها بكل غالٍ وثمين؟

يقول لاري دايموند -أحد الكتّاب الأمريكيين البارزين بمجال علم السياسة- في كتابه (روح الديمقراطية..الكفاح من أجل بناء مجتمعات حرّة) تعليقًا على فترة رئاسة جون كيندي “لقد سُحِقت مثالية كيندي بالتدخّل المشؤوم في فيتنام، والسبب الحرب ضد التوسّع الشيوعي، وكانت الكلفة باهظة، وتحوّلت صورة أمريكا من مُسانِدة للديمقراطية وحرّية الشعوب إلى قاتلة للأطفال والبشر بجانب تأييد سلطة ديكتاتورية، بسبب رغبتها الجنونية في محاربة كل ما هو شيوعي، وهو ما أدّى أيضًا إلى وقوفها بجانب العديد من الأنظمة الديكتاتورية في أمريكا اللاتينية، والانقلاب على السلطة الشرعية المنتخبة، كما حدث في تشيلى مع الحكومة المنتخبة للرئيس الاشتراكي سلفادور الليندى، وأصبح خطاب التولية القوى لكنيدي مسخرة قاسية”.

(3)

ما قاله لاري دايموند عن التناقض بين القول والفعل بالنسبة لكنيدي يمكن أن ينسحب على ما حدث بالنسبة لخلفائه من الرؤساء الأمريكيين بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وانتصار الرأسمالية، لم تتوقف الولايات المتحدة عن التلويح باستخدام القوّة، ولم يتحقق السلام العالمي رغم أنها تجلس منفردة على سدّة حكم العالم، بل سارعت بخلق عدوّ جديد بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، واستغل صقور واشنطن -على اختلاف صنوفهم- الفرصة.

ولم يحاول الصقور إيقاف الكارثة كما جاء في الفيلم الوثائقي (فهرنهايت 9/11) للمخرج الأمريكي مايكل مور، ليستغلوا هذا العمل الإرهابي في ترهيب الشعب الأمريكي والعالم كله، واتخذوا من ذلك ذريعة لغزو أفغانستان وتدمير العراق بالقوّة الغاشمة والقيام بعمليات عسكرية في باكستان وسوريا وصلت تكلفتها إلى أكثر من 6 تريليونات دولار! تحمّلت الخزانة الأمريكية هذه المبالغ الطائلة لصالح بارونات السلاح وشركات النفط وإعادة الأعمار الذين ينفقون على الحملات الانتخابية للمرشحين في الولايات المتحدة. وكما قال جيمي كارتر، فإن بلاده هي أكثر دول العالم دخولًا للحروب في عمرها القصير، وأضاف أنه كان من الأفضل توجيه هذه الأموال لتحديث البنية التحتية والاستثمار في الذكاء الاصطناعي، كما فعلت الصين.

(4)

انتهت حقبة الحرب على الإرهاب، وتبيّن أنها كانت ذريعة لسرقة النفط وثروات الشعوب وبسط النفوذ والهيمنة، وكان لا بدّ من خلق عدوّ جديد، ليظل الإنفاق على التسليح مستمرًّا، بل ويتعاظم.

والرئيس الأمريكي بايدن بدأ عهده بإطلاق حرب جديدة، تحت شعار حماية الديمقراطية، وبمقتضاها تم تقسيم العالم إلى معسكرين: معسكر الخير ويمثله الدول الديمقراطية، ومعسكر الشر ويمثله الدول غير الديمقراطية، الأولى تم دعوتها إلى قمة الديمقراطية، والثانية تم تجاهلها.

ورغم أن الديمقراطية الأمريكية نفسها محل مراجعة، كما ذكر المعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية -ومقرّه ستوكهولم- في تقرير حول الديمقراطيات في العالم نُشر مؤخرًا، حيث جاءت الولايات المتحدة للمرّة الأولى ضمن قائمة “الأنظمة الديمقراطية المتراجعة” بسبب التدهور المُسجّل في النصف الثاني من ولاية دونالد ترمب، إلا أن الرئيس بايدن ينظر إلى القذى في عين أخيه، أما الخشبة التي في عينه فلا يفطن لها!

(5)

ليس هناك عاقل لا يجد أن الديمقراطية هي إحدى أدوات الحكم الرشيد، لكنّ استخدامها ذريعة لأغراض في نفس يعقوب فهذا ما أريد التوقف عنده. والسؤال الذي يجب طرحه، هل قمّة الديمقراطية مقصود منها حماية الديمقراطية لصالح شعوب العالم بما فيها الداخل الأمريكي، أم إنها مُسخّرة إعلاميًّا لصرف النظر عن حقيقة ما يجرى داخلها، وأن الاجتماعات ستكون مُخصّصة لمناقشة تهديد الصين لمكانة الغرب، وعلى وجه التحديد الولايات المتحدة، وكذلك المخاوف تجاه العدوّ التقليدي “روسيا”، وتحفيز دول أخرى على دعم الديمقراطية بغرض تطويع قرارها لصالح أمريكا.

عالمنا يحتاج إلى مفاهيم سياسية جديدة تصلح للمستقبل وليس إعادة تدوير نفايات الماضي، نحتاج إلى تضافر جهود كل شعوب العالم، لإرساء قواعد نظام عالمي جديد عادل ومتعدّد الأطراف، يضع الحق فوق القوّة، وليس العكس كما يحدث الآن.

العالم يحتاج إلى شعوب يقِظة مُشارِكة في صياغة مستقبلها طبقًا لرؤيتها لواقع حياتها، بعد أن خذلها قادتها الذين يضعون مصلحة جماعات الضغط التي أتت بهم إلى سدّة الحكم قبل مصالح شعوبهم.

يا شعوب العالم اتحدوا، ولا تجعلوا الساسة يذهبون بكم إلى التهلكة.

المصدر : الجزيرة مباشر