أرمينيا عدو الأمس.. هل تصبح حليف تركيا في الغد؟!

أتراك يتظاهرون أمام السفارة الأمريكية في إسطنبول احتجاجًا على اعتراف بايدن بمذابح الأرمن (أبريل/نيسان 2021)

بإعلان كل من أنقرة ويريفان تعيين ممثلين خاصين لكل منهما لدى الطرف الآخر، تزامنًا مع إطلاق رحلات طيران بينهما، تؤسس الدولتان لمرحلة جديدة في علاقاتهما الدبلوماسية بهدف وضع دعائم قوية راسخة تؤمّن لهذه العلاقات الصمود والاستمرارية.

تلك العلاقات التي شهدت ثلاثة عقود من القطيعة المطلقة، بعد أن قطعت تركيا علاقاتها مع أرمينيا عام 1993، وأغلقت حدودها البرية معها، تضامنًا مع أذربيجان، ورفضًا للاعتداء الذي تعرضت له، عقب إعلان أرمينيا استقلالها عام 1991، واحتلالها إقليم “ناغورني قره باغ” الأذري.

ومع استئناف العلاقات الأذربيجانية الأرمنية لم يعد هناك مبرر لاستمرار القطيعة بين تركيا وأرمينيا، خاصة بعد أن استعادت باكو الإقليم المتنازع عليه عقب الحرب التي وقعت بينها وبين يريفان في خريف 2020، وتوقيعهما اتفاقا لإنهاء العمليات العسكرية برعاية موسكو، تنازلت بموجبه أرمينيا عن سبع مناطق كانت قد احتلتها خلال الحرب التي وقعت بينهما في تسعينيات القرن الماضي، وهي تلك الأراضي المحاذية للمساحات التي استعادتها أذربيجان مؤخرًا.

ومع الاتهامات المتكررة التي وجهتها أرمينيا إلى تركيا بمساندة أذربيجان، بل والضلوع مباشرة في قيادة المعارك التي اندلعت بين الدولتين، وهو ما نفته تركيا تمامًا، يبدو من المنطقي التساؤل بشأن ما إذا كانت هناك نيات حقيقية لديهما لتطبيع علاقاتهما، وبدء صفحة جديدة يمكن من خلالها وضع آلية للتعاون المشترك وطي صفحة الماضي، التي تقف عقبة كداء في وجه كل محاولة تُبذل من أجل تحقيق هذا الهدف، والأهداف التي تسعى كل دولة لتحقيقها من وراء ذلك التطبيع بينهما.

محاولات استئناف العلاقات الدبلوماسية

فالتقارب التركي الأرميني ليس وليد اليوم، إذ شهد البلدان عام 2009 أول محاولة سياسية لاستئناف علاقاتهما الدبلوماسية، عندما كان أحمد داود أوغلو وزيرًا للخارجية، ويطبق مبّدأ صفر مشكلات، لكن الأمور لم تسِر كما كان مخططًا لها، إذ لاقت محاولته تلك ردود فعل عنيفة من القوميين في كلا البلدين.

إذ رفض القوميون الأتراك أي محاولة للصلح ما لم تنسحب أرمينيا من إقليم ناغورني قره باغ، وإعادته إلى باكو، بينما أصر القوميون الأرمن على ضرورة اعتراف أنقرة أولًا بتوصيف الأحداث التي وقعت عام 1915 بأنها “إبادة جماعية” قبل أي خطوة لتطبيع العلاقات معها، الأمر الذي أوقف تلك المساعي الدبلوماسية.

أما المحاولة الأخرى فجاءت منذ أشهر، إذ بعد انتهاء الخلاف الأذري الأرميني، أعلنت يريفان رغبتها في فتح صفحة جديدة مع أنقرة، وتطبيع العلاقات بينهما، وإبداءً لحسن نياتها سمحت أرمينيا لكل من أذربيجان وتركيا باستخدام مجالها الجوي في رحلات الطيران بينهما، كما أعلنت استعدادها لبدء عملية ترسيم الحدود مع أذربيجان، وهو ما أعاد فتح القنوات الدبلوماسية مجددًا للتباحث بشأن فرص عودة العلاقات التركية الأرمينية، التي تجري هذه المرة بالتنسيق مع أذربيجان، وموافقة القوميين الأتراك.

مكاسب تركيا من تطبيع العلاقات مع أرمينيا

دون شك فإن تطبيع العلاقات مع أرمينيا سيعود بكثير من المكاسب على الحكومة التركية التي هي في أمسّ الحاجة لتحقيق انتصارات ومكاسب خارجية، بعيدًا عن الصراعات والمعارك السياسية والاقتصادية التي تخوضها بصورة شبه يومية على الصعيد الداخلي، وتتلخص أهم هذه المكاسب في أن:

1) تطبيع العلاقات مع يريفان سيؤمّن لمنطقة جنوبي القوقاز الهدوء والاستقرار بما يسمح بتخفيف الأزمة الاقتصادية التي تعانيها المنطقة منذ فترة ليست بالقصيرة، جراء التوترات والمعارك التي شهدتها سابقًا، وازدادت حدتها نتيجة تداعيات جائحة كورونا.

2) عودة الأمن والاستقرار لجنوبي القوقاز، يعني إمكانية بدء التأسيس لمشروعات اقتصادية مهمة في العديد من المجالات كالنقل والطاقة والبنية التحتية، الأمر الذي سيسهم في ازدهار المنطقة اقتصاديًّا وتحسين مستوى المعيشة بها، وهو ما سيعود على تركيا بالكثير من المكاسب حيث يعني ذلك فتح أسواق عديدة أمام المنتجات التركية.

3) الاتفاق بين يريفان وباكو على فتح ممر يربط الحدود البرية الرئيسية في أذربيجان مع جمهورية ناخشفان جنوب غرب أرمينيا -التي تتمتع بحكم ذاتي- عبر ممر “زنغيزور” يحقق الرغبة التركية في إيجاد ممر بري للتواصل المباشر بينها وبين الجمهوريات التركية في آسيا الوسطى والقوقاز.

4) هذا الممر يُعد همزة وصل تجارية بين الشرق والغرب، في ظل المحاولات الاقتصادية الرامية إلى إحياء طريق الحرير التاريخي، وهو ما يصب في صالح تركيا اقتصاديًّا.

5) زيادة قوة تركيا السياسية، وتأثيرها كقوة إقليمية مهمة ذات سطوة ونفوذ، الأمر الذي سيمنحها مكانة أكثر تميزًا على المستوى الدولي وداخل الاتحاد الأوربي.

6) نجاح الحكومة التركية في إحراز تقدّم في ملف العلاقات مع أرمينيا سيصب بنهاية المطاف في صالح حساباتها الداخلية، ورفع أسهمها لدى الناخبين، ولجم الأصوات المعارضة لسياساتها الخارجية، خصوصًا أن ذلك -في حال إتمامه- سيكون نجاحًا على الصعيدين السياسي والاقتصادي.

أهداف أرمينيا من التطبيع مع تركيا

أما بالنسبة لأرمينيا، فإنها تسعى -هي الأخرى- لتحقيق مكاسب عدة من تطبيع علاقاتها مع تركيا، بينها:

1) إخراج اقتصادها من المعاناة التي يمر بها، بسبب تبعيته الطويلة للاقتصاد الروسي، ونتيجة الحرب الأخيرة التي خاضتها، وتداعيات خسارتها المرهقة، لذا فإن التعاون مع تركيا يبدو طوق النجاة الوحيد الذي عليها التشبث به بقوة.

2) فشلها في الحصول على دعم أمريكي أو أوربي خلال حربها الأخيرة مع أذربيجان دفعها إلى إعادة ترتيب أوراقها، وإعادة النظر في تحالفاتها بما يخدم مصالحها، ويحقق لها أهدافها في بناء خريطة تحالفات جديدة تعود عليها بالنفع سياسيًّا واقتصاديًّا.

3) الاستفادة من تطور العلاقات التركية الروسية، وتوظيفها للمساعدة في بناء الثقة مع تركيا، خصوصًا أن حجم النفوذ الروسي لدى السياسيين الأرمن -والقوميين منهم تحديدًا- من شأنه أن يضمن تحقيق التقدم المطلوب على المستويين المتوسط والبعيد.

4) فشلها في تحقيق مكاسب حقيقية، أو التوصل إلى نتائج ملموسة  للاتهامات التي توجهها إلى تركيا، بالقيام بحرب “إبادة جماعية ضد الأرمن” رغم اعتراف كل من ألمانيا وروسيا وكندا واليونان وسويسرا وفرنسا وأخيرًا الولايات المتحدة، فإن النخبة السياسية الحاكمة هناك رأت -على ما يبدو- أن تواصلها المباشر مع تركيا في هذه القضية يبدو أكثر منطقية، إذا ما أُريد إحراز النتائج التي يطمحون إليها، لتهدئة مخاوف القوميين لديهم.

5) فتح الحدود بين البلدين سيتيح لها الوصول إلى الأسواق في تركيا والدول المجاورة لها، مما يمنحها فرصة ذهبية لإنعاش اقتصادها، ورفع مستوى المعيشة لشعبها، الذي يُعد أفقر شعوب منطقة القوقاز.

6) كما يُعد ممر ” زنغيزور” وخط السكك الحديدية المزمع إقامته، فرصة ذهبية ونقطة تحوّل لها تمكّنها من الاستفادة الاقتصادية من شبكة الطرق التجارية التي ستربط العديد من دول القوقاز ببعضها، مما سيتيح لها عملية تبادل تجاري واسعة النطاق.

شبح أحداث 1915 يخيّم على تطبيع العلاقات

المكاسب السياسية والاقتصادية التي يمكن أن تحصدها كلتا الدولتين من طي صفحة الماضي، قد تكون حافزًا لهما على المضي قدمًا في تطبيع علاقاتهما، رغم أن خلافهما لا يزال قائمًا بشأن أحداث عام 1915 التي وقعت في عهد الدولة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولي.

إذ تصر أرمينيا على توصيف أحداث تلك الفترة بأنها “إبادة جماعية”، مؤكدة أن الحرب التي تزامنت مع مجاعة تسببت في مقتل ما بين 300 ألف ونصف المليون أرمني، بينما تؤكد تركيا أن تلك الأحداث المأساوية شملت الطرفين، حيث ارتكب الأرمن مذابح فظيعة بحق المسلمين والأتراك، وأن عدد الضحايا بينهما وصل إلى مئات الآلاف، مطالبة بضرورة تشكيل لجنة من الطرفين تبحث في أحداث هذه الفترة وفق الوثائق التاريخية التي يملكها كل منهما، معربة عن استعدادها لفتح أرشيفها أمام من يرغب في التيقن مما حدث، الأمر الذي ترفضه أرمينيا.

ورغم هذا الخلاف، ووجود من يسعى جاهدًا لاستمراره، فإن الإجراءات القليلة التي اتخذتها يريفان وأنقرة هي خطوات تاريخية تُحسب لكلتيهما، مما يعني ضرورة مواصلتها والبناء عليها، لما في ذلك من مصلحة لهما معًا، ولجميع دول منطقة القوقاز.

 

 

 

 

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر