ما بعد سيف القدس.. المقاومة بين الاحتواء والمعركة المستمرة

يشاهدون استعراضا للمقاومة

لا شك أن ما بعد معركة سيف القدس ليس كما كان قبلها، فوقف إطلاق النار لا يعني أن المعركة قد انتهت، بل إن المعركة مستمرة، وفتحت الطريق لمعارك أطول ستتركز بين هدفين هما: احتواء حماس أو استئصالها.

هناك معادلات جديدة تشكلت على أرض الواقع بعد معركة سيف القدس وتحسبات لا يمكن تجاهلها، تفرض نفسها مرتكزا ضابطا لقراءة التفاعل والحراك الدولي والإقليمي تجاه حماس والقضية الفلسطينية، خاصة أن ما حققته المقاومة في غزة سدد ضربة قوية لصفقة القرن، وأعاد طرح الحق الفلسطيني من جديد أمام ضمير العالم أجمع، وأحيا القضية الفلسطينية-والتي كان يُراد لها أن تُشطب-لتعود كما كانت مركز وحدة للأمة العربية والإسلامية في وجه المشروع الغربي والصهيوني.

حقائق وثوابت

هناك حقائق وثوابت هامة لابد من الوقوف عليها عند استقراء وتقييم ما بعد معركة سيف القدس والمعادلات والتحسبات التي أنتجتها، في ظل المعركة المستمرة عموما مع الاحتلال الإسرائيلي؛ لأنها تمثل مرتكزا لفهم طبيعة الصراع القائم وحقيقة المواقف الدولية والإقليمية، وتبين أن الدور الذي تقوم به فصائلُ المقاومة في غزة ليس في مواجهة إسرائيل فحسب، بل في مواجهة مشروع استعماري للهيمنة والتبعية قائم منذ عقود.

أولا: إسرائيل ذراع أمريكا والغرب

إن أول الحقائق والثوابت التي يجب ألا تغيب بخصوص الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي هي أن إسرائيل ذراع أمريكا والغرب وصنيعتهم للسيطرة على المنطقة، والدور الأمريكي شريك كامل في مشروع هدفه اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم.

ثانيا: إسرائيل أحد عناصر الأمن القومي الأمريكي

إن المرتكز الأساسي في استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية في التعامل مع المنطقة وأحد عناصر أمنها القومي؛ هو أن تصير إسرائيل الدولة المسيطرة في المنطقة، بل ويتسع مفهوم الأمن القومي الأمريكي إلى ربط أمنها القومي بوجود إسرائيل؛ ولذلك أخذت على عاتقها تحقيق التفوق العسكري لإسرائيل على جميع جيوش المنطقة، وأي تهديد لأمن إسرائيل هو تهديد للأمن القومي الأمريكي، ويستلزم التدخل لاستئصال أي قوى أو قيادات رافضة لإسرائيل والوجود الأمريكي الاستعماري بالمنطقة.

ثالثا: اتفاق الأهداف الإسرائيلية مع الأهداف الأمريكية

إضافة إلى ذلك نجد أن الأهداف الإسرائيلية بعيدة المدى تتفق مع الأهداف الأمريكية، فالمطلوب هو تقزيم المنطقة وتحويلها إلى كيانات صغيرة تدور في فلك الأهداف الأمريكية.

رابعا: الصراع حول فلسطين صراع من موقع عقائدي ديني

كذلك من الأهمية بمكان إدراك أن الصراع حول فلسطين والقدس ليس صراعا من موقع المصالح الاستراتيجية؛ ولكنه صراع من موقع عقائدي ديني، والقوة الرئيسية المحركة له هي المسيحية الصهيونية، واليهود هم الطفل المدلل لها، وهم الذين مكنوا لليهود في فلسطين.

خامسا: ارتباط النظام السياسي العربي بأمريكا والغرب

أيضا فإن مصير النظام السياسي العربي ونظم الحكم الحالية مرتبط بأمريكا والغرب ومصير الاحتلال الإسرائيلي، وهناك من ينفذ طوعا أو كرها سياسات الغرب التي تقود لإعادة احتلال المنطقة وتقسيمها وتفتيتها، ويدورون في فلكها، ولا توجد استقلالية اقتصادية ولا استقلالية في الهيكل العسكري والتسليح، وهذا ربما يفسر التسابق العربي في مضمار التطبيع حتى تحولت المعادلة بدلا من الأرض مقابل السلام إلى مقايضة الدعم مقابل الاستسلام.

تساؤلات ومعادلات وتحسبات

سرت موجة كبيرة من التفاؤل مع وقف إطلاق النار، بعد ما بدا واضحا من تطور قدرات المقاومة على المواجهة والردع إذا ما قورنت بالسابق، بينما كان الداخل الإسرائيلي في صدمة عبرت عنها وسائل الإعلام العبرية والتقارير الصحفية بمقولة “إسرائيل تحترق” التي ترددت مرارا وتكرارا خلال أيام المعركة؛ مما جعل الجميع أمام معادلات مختلفة وتساؤلات مطروحة وتحسبات من القادم.

هل انتصرت حماس والمقاومة؟

وفقا للمعايير السياسية ومقياس تحقيق الأهداف، فإنه يمكن القول إن حماس والمقاومة الفلسطينية انتصرت وأضافت عاملا جديدا في معادلة توازن الرعب، وإن إسرائيل تعرضت للهزيمة وذلك لأن أيا من الأهداف التي أعلنتها لبدء هذه الحرب لم تتحقق، كما بات لزاما إعادة الحسابات قبل خوض أي معركة متعددة الجبهات لأن ذلك سيكون مغامرة غير محسوبة العواقب.

معادلات جديدة

المعادلات الجديدة بعد معركة سيف القدس تؤكد أن التعامل مع حماس أصبح حتمية سياسية؛ فالسلطة الفلسطينية ممثلة في محمود عباس لم يعد لها أي مصداقية؛ بما يعني أن أي طرف دولي سواء كان الولايات المتحدة أو أي دولة أوربية ليس أمامهم أي قيادة فلسطينية ذات مصداقية للحديث معها، وإن لم يتحدثوا إلى حماس فسوف يتحدثون إلى فراغ.

بناء على الواقع الموجود على الأرض والإنجاز الذي حققته حماس، وعدم تصور أي مقاربة للحل دونها؛ فإنه على جانب آخر يجب الحذر وعدم التفاؤل تجاه أي تصريحات أو خطوات أمريكية أو أوروبية تجاه الحقوق الفلسطينية وما تقوم به إسرائيل؛ وذلك لأن التحول الذي لمسه البعض من التصريحات لا يرقى إلى مرحلة إدراك حقيقي لطبيعة الحقوق الفلسطينية والفاعلين في المشهد الفلسطيني.

 تحسبات وترتيبات متوقعة للتعامل مع غزة وحماس

في الأفق المنظور واضح أن الإنجاز الذي حققته حماس أصاب جزءا مهما في المخيلة الإسرائيلية والأمريكية والغربية، وسيقود لاستراتيجية شاملة للتعامل مع غزة وحماس ستشمل ترتيبات لمحاولة الاختراق السياسي واستيعاب حماس وجرها للعملية السياسية والسيطرة عليها سياسيا حتى تعترف بإسرائيل كما فعلت من قبل منظمة التحرير، أو التجهيز لضربة ساحقة للاستئصال.

الترتيبات المتوقعة لمواجهة حماس والمقاومة

–      إعمار مقابل نوع السلاح

من الواضح أن الإدارة الأمريكية ستسعى لحشد الجهود الدولية والإقليمية لمعادلة قوامها إعادة إعمار غزة مقابل نزع سلاح حماس والمقاومة، وسيتم طرح ذلك علنا وربط حماس بعرقلة جهود الإعمار ومعاناة غزة.

–      منع حماس من جني مكاسب سياسية

على جانب آخر يفرض الإنجاز الذي حققته حماس في معركة سيف القدس على الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من منظور استراتيجي العمل على  منع حركة حماس والداعمين لها في المنطقة من جني أي مكاسب أو فوائد سياسية أو الحد منها على أقل تقدير ؛ خاصة بعد ما بدا واضحا أن حماس تستفيد من اشتباكات الكتل والمحاور، وأن غزة هي المكان الذي يلتقي فيه فرقاء المحاور والتحالفات والكتل المتصادمة في المنطقة –أولا محور المقاومة الذي يضم إيران وسوريا وحزب الله والحوثيين، ومحور تحالف الكتلة السنية المناهضة لإيران والإسلاميين وإسرائيل- ثانيا: الكتلة السنية التي تضم تركيا وقطر والإخوان المسلمين وحماس، والكتلة السنية المناهضة لها التي تضم مصر والأردن ودول الخليج.

–      تعزيز سلطة محمود عباس وشرعنتها

رغم فقدان السلطة الفلسطينية ممثلة في محمود عباس أي مصداقية ستعمل واشنطن وحلفاؤها على تقديم كافة وجوه الدعم لتعزيز سلطة عباس وشرعنتها ومكافآتها على التعاون، ومنع استفادة حماس من أي عمل مقاوم، ولأجل تعميق الانقسام الفلسطيني.

–      ستعمل واشنطن على حث الدول المطبعة للعمل على تقليص التعاطف العالمي مع أهل غزة والقضية الفلسطينية، وتشجيع هذه الدول في مقابل التصدي لدور قطر وتقليص دعمها المالي لحماس إضافة لمحاولة تقليص الدور التركي والإيراني.

–       دعم عودة مصر لقيادة الوساطة في القضية الفلسطينية

من ناحية أخرى وبعد الدور المصري الفاعل في وقف إطلاق النار -الذي مثل رافعة سياسية للإدارة المصرية داخليا وخارجيا، وأعاد مصر إلى تموضعها الطبيعي من القضية الفلسطينية- ونال الشكر والتقدير من حماس وإسرائيل، وبحكم التاريخ والجوار والرصيد التراكمي للوساطة المصرية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والنفوذ المصري لدى الفصائل الفلسطينية، والعلاقات القوية للإدارة المصرية مع إسرائيل؛ فإن واشنطن ستشجع القاهرة على تولي دور القيادة في العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية بدلا من قطر وتركيا، مقابل تغيير الخطاب شديدة اللهجة الذي كان قائما أثناء معركة سيف القدس والمدعوم حكوميا، وتراه واشنطن عدائيا؛ حيث إن استمرار مثل هذا الخطاب يمثل ضغطا على المطبعين الحاليين من الدول العربية والخليجية، وكذلك المطبعين المحتملين، وكذلك ستضغط لتتبني القاهرة موقفا متوازنا من وجهة نظر واشنطن يدين رد حماس بالصواريخ كما يدين الاعتداءات الإسرائيلية، لكن يبقي الأمر متوقفا على النهج الذي ستتخذه القاهرة في المرحلة المقبلة تجاه غزة والقضية الفلسطينية، إما الاستمرار في الضغط للوصول لحل دائم أو التماهي مع المنظور الأمريكي في إدارة الصراع.

–      حث مزيد من الدول للتطبيع

ستعمل واشنطن على حث المزيد من الدول لإبرام اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل، وبدون شك سيكون بايدن حريصا على تأكيد دعمه لإسرائيل وإعلانه بأنه لابد أن تعترف المنطقة بحق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية، والتزامه بأمن إسرائيل.

الخلاصة

إن الانجاز الذي حققته حماس والمقاومة في معركة سيف القدس يفرض على إسرائيل والولايات المتحدة استراتيجية للتعامل مع حماس وغزة لن تخرج عن إطار الاحتواء أو الاستئصال؛ وهذا يتطلب من المقاومة أن تتحسب لكافة الخطوات الأمريكية والإسرائيلية وتحالف دول التطبيع، وأن تحاول الاستفادة من اشتباكات المحاور والكتل القائمة في المنطقة وتسعى لتطوير قدراتها.

أولوية القوة وأولوية الحق

لقد كانت المعادلة قبل معركة سيف القدس قائمة على إغلاق ملف القضية الفلسطينية، وإلغاء الشعب الفلسطيني، والتعامل معه كمجموعات ليس لها صفة سياسية، وذلك انطلاقا من استبدال مبدأ أولوية الحق بمبدأ أولوية القوة، والقرارات الأمريكية في عهد الرئيس السابق ترمب بخصوص القدس والقضية الفلسطينية كانت تستند إلى أولوية القوة، وأن ما تقبل به القوة أهم مما يقبل به الحق، وتحديد الأحقية بين المطالب الإسرائيلية والحقوق الفلسطينية بميزان أولوية القوى الداعمة للحق الفلسطيني.

فرصة تاريخية لصياغة مشروع للمواجهة

إن اللحظة الراهنة التي انتجتها معركة سيف القدس تعد فرصة تاريخية للعالم العربي والإسلامي والنخب السياسية لصياغة مشروع للمواجهة ودعم المقاومة وتحرير فلسطين؛ لأن الهدنة القائمة هي تأجيل للصراع لا أكثر ولا أقل، كما أن تدخل الإدارة الأمريكية ليس للحل؛ ولكنها فقط تدير الصراع حتى لا يخرج عن السيطرة، كما أن إسرائيل لا تريد تسوية تاريخية ولن تقبل بها؛ ولكن تريد البقاء في حالة صراع مع المحيط، انطلاقا من مرجعية أيديولوجية.

خاتمة

إن ما تمتلكه المقاومة من قدرات يضيف رصيدا استراتيجيا للفلسطينيين، كما أن المكاسب التي تحققت في معركة سيف القدس يجب ألا تتوه في أروقة الخلافات السياسية؛ بل يجب أن تستثمر وتتحول إلى تحدٍ للاحتلال ومحاولات الاحتواء والاستئصال عبر وضع استراتيجية للنضال في معركة واحدة شاملة لتحرير الأقصى وفلسطين، واستثمار كون القضية الفلسطينية القضية الوحيدة القادرة على تحريك الشارع العربي والإسلامي.

المصدر : الجزيرة مباشر