تركيا باقية في أفغانستان.. وطالبان قريبًا في أنقرة!

أمام مطار أفغانستان

تصاعدت التحركات الدولية الرامية إلى الحد من انتشار حالة الفوضى في أفغانستان بعد سيطرة حركة طالبان على كل مفاصل الدولة الأفغانية، وتوليها المسؤولية كاملة عقب هروب الرئيس أشرف غنى، وقيام العديد من دول العالم -الأوربية على وجه الخصوص- بسحب بعثاتها الدبلوماسية وإجلاء رعاياها من هناك.

وأعتقد كثيرون أن تركيا ستسارع هي الأخرى إلى سحب قواتها العاملة في أفغانستان، مثلها في ذلك مثل غيرها من باقي دول التحالف الدولي، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، خصوصا بعد قيامها بسحب أكثر من 552 من مواطنيها خلال الأيام القليلة الماضية، وإعلانها عن استمرار عمليات الإجلاء للراغبين منهم، وحشد جميع الإمكانات من أجل إنجاز تلك العمليات في أسرع وقت.

بل وتداول البعض ادعاءات تشير إلى تراجع تركيا عن تأمين وحماية مطار كابل، وتنصلها من اتفاقها مع الولايات المتحدة الخاص بذلك الأمر، إلا أنه على عكس التوقعات، إذ أعلنت تركيا صراحة رغبتها في البقاء بأفغانستان، والتعامل مع من يتولى السلطة في البلاد، بغض النظر عن توجهاته الأيدولوجية أو نهجه السياسي، متسلحة في ذلك الموقف بعمق العلاقات التاريخية بين البلدين، التي تحكمها اتفاقية ثنائية وقعت عام 1921.

وبغض النظر عن مسألة أن الوقوف بجانب أفغانستان هو أحد متطلبات الوفاء بالعهد والأخوة أيا كانت الجهة الحاكمة، كما عبّر عن ذلك الرئيس أردوغان، فإن لدى تركيا رغبة شديدة في القيام بدور أكثر حيوية وفاعلية في آسيا الوسطى، التي تشهد تغييرات في ميزان القوى، لتحجز لنفسها مكانا بارزا في منظومة القوى الجديدة التي ستسفر عنها تلك التغييرات، وهو الدور الذي يمر عبر وجودها كجزء من التوازن الفعلي في أفغانستان، إلى جانب إدراكها لأهمية الوجود في مثل هذه الأوقات الحرجة، التي تعاني فيها الدول سياسيا واجتماعيا، وانعكاسات ذلك الوجود الإيجابية على العلاقات السياسية والاقتصادية بين البلدين مستقبلا، وما يمكن أن يحققه لها من مكاسب تجارية وعسكرية، وهو ما بدا واضحا في تصريحات المسؤولين الأتراك الذين شددوا على أن هدفهم رفاهية الشعب الأفغاني، والحفاظ على سلامته، وتأمين مصالح بلادهم.

تهيئة الظروف

فأنقرة تبدو مصممة على تهيئة الظروف المناسبة لترسيخ علاقات سياسية ودبلوماسية ناجحة مع طالبان بما يسمح لها بتنفيذ مقترحها الخاص بالاستمرار في إدارة وتأمين مطار كابل، الأمر الذي سيجعلها الوسيط الموثوق به من جانب الأطراف الداخلية والخارجية على حد سواء، وسيصب في صالح عودة الاستقرار داخل أفغانستان.

أما فشل الاتفاق مع طالبان على ذلك فيعني خروج البعثات الدبلوماسية العاملة في البلاد، وإغلاق المطار، وتوقف حركة الطيران الدولي، وهو ما يعني فعليا عزل أفغانستان نفسها عن المجتمع الدولي، الذي سيعتبرها آنذاك دولة إرهابية تأوي بداخلها التنظيمات المتشددة.

ويبدو أن حركة طالبان أدركت تلك الحقيقية، الأمر الذي جعلها تغير من لهجتها، وتخفف من حدة تصريحاتها تجاه مسألة الوجود العسكري التركي على أراضيها، بل ودفعها إلى الإعلان صراحة عن رغبتها في التعاون مع تركيا بصفتها دولة إسلامية كبرى في المنطقة، وهي التصريحات التي رحب بها الأتراك، ورأوا فيها تغييرا كبيرا في توجهات الحركة تجاههم، مما دعا الرئيس أردوغان إلى التصريح بأنه ينوي لقاء قادة طالبان في العاصمة أنقرة خلال المدة المقبلة.

صيغة جديدة للوجود التركي في أفغانستان

ورغم تغير الخطاب السياسي لطالبان تجاه تركيا، فإن الأخيرة مدركة تماما لحساسية موقف جنودها الذين كانوا جزءا من قوات الناتو العاملة في أفغانستان، صحيح أنهم لم يتورطوا في أي أعمال قتالية، ولم يشتبكوا مع أي طرف من أطراف الصراع الدائر على الأرض، وأن دورهم تمثل فقط في تهيئة البنية التحتية، والقيام بأعمال البناء والتشييد، إلا أنهم في نهاية المطاف يعتبرون جزءا من قوات أجنبية، تعدها طالبان قوات احتلال، مما يستوجب قتالهم وإخراجهم من البلاد.

إذا استمرار الوجود العسكري التركي أصبح يتطلب صيغة مختلفة عن تلك الصيغة المرتبطة بالناتو والتحالف الدولي، مما يستلزم السعي لعقد اتفاق ثنائي تركي-أفغاني، حقيقة أدركتها أنقرة في الوقت المناسب، لذا سعى الأتراك، إلى الترحيب بالخطاب المتوازن لرموز حركة طالبان من السياسيين، وأعلنوا عن استعدادهم لاستقبال عدد منهم في القريب، للتباحث حول الصيغة المناسبة لكل منهما بما يكفل إتمام تلك المهمة.

ورغبة منها في إنجاح الأمر، من المرجح أن تعلن أنقرة خلال تلك المباحثات أن مهمتها العسكرية ضمن قوات التحالف الدولي وحلف الناتو قد انتهت، وأنه لن يكون لها قوات عسكرية في أفغانستان، وأنها في القيام بمهمة إدارة مطار كابل الدولي من خلال الإدارة المدنية التي تقوم بذلك حاليا بالتعاون مع قوات حركة طالبان لحماية وتأمين المطار.

ليست طرفاً

الوصول إلى هذه الصيغة بين الجانبين يعني نجاح الدبلوماسية التركية مجددا في الوصول لأهدافها، وفي تحقيق مكاسب متعددة ستصب أيضًا في صالح المستقبل السياسي لحركة طالبان، ومن تلك الأهداف المنتظرة:

1- الحفاظ على حركة الطيران من وإلى المطار، ما سيبث الشعور بالأمان لدى البعثات الدبلوماسية العاملة في أفغانستان ، وسيمنح حركة طالبان المصداقية أمام المؤسسات العالمية، ويضفي على حكمها الشرعية الدولية التي هي بحاجة إليها وتسعى لتحقيقها.

2 – توسيع النفوذ التركي في أفغانستان من شأنه تحويل تركيا إلى مركز ثقل سياسي للعالم الإسلامي، وهو ما سيفتح المجال رحبا أمام تركيا لتكون شريكا أساسيا في جميع قضايا ومشاكل الدول الإسلامية.

3 – الوجود التركي في أفغانستان يعني الاقتراب أكثر من مناطق آسيا الوسطى، البعيدة عنها جغرافيا، بما يمكنها من التواصل المباشر مع شعوب المنطقة المسلمة الناطقة باللغة التركية.

4 – توسيع النفوذ السياسي والأمني في أفغانستان وآسيا الوسطى يمنحها أفضلية في المواجهة الجيوسياسية مع روسيا المحتملة، حال اختلفت الظروف وتبدلت الأوضاع.

5 – النجاح في إدارة مطار كابل سواء تم ذلك تحت إدارة مدنية أو عسكرية، سيصب في صالح استمرار التفاهمات التركية-الأمريكية، مما يمكن أن يسهم في تخفيف حدة التوتر القائم في العلاقات بين البلدين.

فتركيا تسعى من خلال إصرارها على الوجود في أفغانستان، وتولي مهمة إدارة مطارها الدولي لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وتجارية على المديين المتوسط والبعيد، لكنها في الوقت نفسه لا تنوي ولا تريد أن تكون طرفا في حال اندلعت حربا أهلية داخل أفغانستان كما يتوقع البعض، وليس لديها القدرة العسكرية على الأرض هناك، التي تمكنها من التورط في أمر من شأنه تشويه سمعتها، وينسف العلاقات التاريخية التي تربط البلدين، في حال تلطخت أيديها بدماء الأبرياء من أبناء الشعب الأفغاني.

المصدر : الجزيرة مباشر