بيان أخير من سيد القمني قبل ذهابه للقبر بساعات!

سيد القمني

يوم وفاته (6 فبراير 2022)، أذاعت قناة (الحرة) الأمريكية حوارًا مع سيد القمني، كانت قد سجلته معه قبل أيام قلائل من رحيله، وكان آخر ظهور له في وسائل الإعلام، وكان آخر كلام يختم به حياته المثيرة للجدل، فيما دونه بمؤلفاته، أو قاله في لقاءاته مع الجمهور، سواء مباشرة أو عبر الشاشات، لقاء جديد كاشف جاء قدرًا في هذا الوقت، يعقبه الصمت النهائي له، إلى أن تقوم الساعة.

في اللقاء مع الفضائية الأمريكية، قدم القمني بيانه الأخير عن أفكاره واقتناعاته ونهجه، بوضوح شديد، وإصرار أشد على مهاجمة الأديان، ومنها الإسلام وبشكل مكثف، ومهاجمة الرسل والأنبياء، ومنهم محمد صل الله عليه وسلم وبشكل صريح، ونقد الكتب السماوية، والسخرية من القرآن، وطبيعة خلق الكون، واعتبار ما ورد بشأن هذا الخلق في الكتب السماوية مأخوذ من الأساطير القديمة.

كما يعيد تأكيد اقتناعه بأن العلم والعقل والمنطق والفلاسفة والحكماء السبعة اليونانيين فوق كل شيء واعتبار عنده، وهذه نظرة تتجاوز التنقيب في التراث، إلى التجرؤ الصريح على المقدسات، مما يعني اللادينية أو المادية أو الوجودية.

التجرؤ على الأديان والمقدسات

وإليكم نقاطًا، من كثير مما قاله القمني في حواره، الذي دخل به إلى قبره، ومعه كل ما سبق من إنتاج خاص به، ليكون بين يدي الله، وهو وحده يحاسبه بعدله المطلق، فليس لنا الحق في تقرير مصير أحد من البشر، مهما بدا متمردًا في أقواله وأفعاله.

يقول القمني:

1- فكرة الأديان خيالية، ولا داعي لها.

2- الأديان تأخذ من الأساطير والحضارات القديمة.

3- الأديان الإبراهيمية الثلاثة (اليهودية، المسيحية، الإسلام) تعاني من مشاكل، منها طبيعة خلق الكون، أو فيزياء الكون، وكلام الأديان بشأن هذا الموضوع بدائي، والإسلام أخذ عن التوراة ما ورد فيها من هذا الحديث البدائي عن خلق الكون.

4- لا أتصور أن يتم التعامل مع الكون اليوم على أنه سماء لها أبواب ينزل منها المطر، وإلى آخره، مثل هذا الكلام لم يعد ينفع، لأنه خارج المنطق والعقل، ومأخوذ من الأساطير القديمة.

5- يجب وضع الدين على هامش حياة المجتمع، خاصة الإسلام، لأنه يستعصي على العلاج والإصلاح، بسبب الفقه ونظرياته.

6- أقدم رأيًا مختلفًا جديدًا في دراساتي للأديان الثلاثة، ومن يَرد علىَّ هو الشخص الكلاسيكي المتجمد، وأفظع الاتهامات التي يوجهها إلي هو الكفر، وأقلها عدم الفهم.

7- استخدمت المنهج المادي التاريخي لإنجلز (الفيلسوف الروسي فريديرك إنجلز 1820 -1895، وهو واضع الماركسية، إلى جانب الفيلسوف الألماني كارل ماركس)، في دراسة الإسلام والإسلاميات، وقدمت قراءة سيسوإجتماعية في السيرة النبوية.

8- النبي إبراهيم له سقطة أخلاقية، فعندما ذهب إلى مصر القديمة للمرة الثانية في حياته طلب من سارة ألا تقول إنها زوجته، بل أخته، وقام بتزويجها للملك، ولما عرف الملك أو الفرعون أنها زوجته، وليست أخته، كما ادعى، تركها له، فأين منظومة القيم هنا؟!

9- قريش كانت تريد مَلكًا يقيم لها دولة مثل اليهود، وهذا الملك لا بد أن يكون في شكل نبي، وكان هو محمد الذي أعلن نفسه النبي المنتظر.

10- قريش في غزوة بدر كانت ذاهبة للمدينة للاحتفال، وليس الحرب، بعد فشل قطع الطريق على قافلتها من جانب المسلمين، ولهذا هُزمت، وأنا غير مهتم بمسألة وجود ملائكة حاربت بجانب المسلمين.

11- النبي تعرض للهزيمة في أحد لأنه خالف معطيات الواقع، فقد عصا نصيحة عبد الله بن أبيّ بن سلول، بعدم الخروج من المدينة، ومواجهة قريش داخلها، ويتم قتالهم في شوارعها، ومن فوق أسطح بيوتها بقذفهم بالطوب.

12- دخول الناس للإسلام، بعد مرحلة مكة، كان انتهازيًّا، بهدف حصول من يعلن إسلامه على مغانم الحرب.

13- سيرة خالد بن الوليد فيها مكاسب دنيوية وملذات جسدية.

نهج للهدم لا البناء

هذا الحديث الأخير يدلّ، لمن لم يقرأ كل ما كتبه القمني، أو لم يستمع إلى كل ما قاله، على نهجه وتوجهه، حيث يتجاوز هدف تنقية التراث والتجديد والتطوير في الأفكار، إلى التجرؤ الخشن على المقدسات نفسها، وهذا عمل لا يستهدف الإصلاح، إنما الهدم، ولا البناء، إنما التخريب.

أما أسلوبه في الحديث، وعرض ما يؤمن به، فهو غالبًا لم يكن يعكس عالمًا رصينًا، أو مفكرًا كبيرًا، أو باحثًا عميقًا.

والمفكر هو الأسلوب، والتعبير برهان على تكوين العقل وطبيعة الشخص، ومخاطبة الجمهور مثل مرآة عاكسة للفكر المرتب المنظم الواثق من نفسه، ومن صحة اجتهاداته، ونبل رسالته.

دور العالِم والمثقف أن يجذب المستمع والقارئ إليه، ويدفعه للاهتمام بما يقوله، لا أن يجعله ينفر منه، ويشكل رأيًا سلبيًّا فيه، وما لم تصل الرسالة إلى الجمهور الواسع، فلا فائدة من التحصيل العلمي، والمجهود الذي يبذله من يُفترض أنه يحمل رسالة حتى لو كانت معادية للثوابت المقدسة.

أركون والأخضر والجابري والتراث

جلست مع المفكر الجزائري الفرنسي الكبير، محمد أركون، ساعات في لقاء محدود العدد، وهو عمدة المفكرين العرب الداعين إلى تجديد التراث، فوجدته رصينًا مطلعًا عميقًا في الثقافة الدينية، ومفكرًا ثقيلًا، وليس صداميًّا مع الدين، بل لا يتسرب الشك إليك في إيمانه.

وقرأت مقالات للكاتب والمفكر التونسي العفيف الأخضر، وهو علماني قحّ، فوجدت أستاذًا متبحرًا، تختلف معه، لكن تحترمه لأن كل كلمة وجملة عنده فيها بحث ودراسة، وهو ليس معاديًا للدين، ولا يهيل التراب على التراث.

أما المفكر المغربي، محمد عابد الجابري، فهو ليس بحاجة إلى الإشادة باتزانه وأكاديميته وقدرته وتمكنه وعقلانيته ومشروعه الحضاري، لاستعادة العقل قيمته ودوره واستنهاض الأمة.

القمني ورفاقه ظاهرة غوغائية

القمني، وآخرون في مصر، يمثلون عبئًا على الفكر النقدي للتراث، ومحاولة غربلته من كل ما يشد للوراء، أو يبقي على الجمود، هم ظاهرة ضجيجية أكثر منهم مدرسة علمية رصينة، وهم عبء كذلك على العلمانية وتحرير العقل، وهم يشوهون الدعاة الجادين المشغولين بالتجديد الحقيقي، ومناقشة كل الموضوعات الشائكة والحساسة، دون المساس بالمقدسات، وهم يتسببون في إدانة العلمانية وكراهيتها، وتقديمها بصورة مخيفة للناس، رغم أنها ليست في تعارض حاسم مع الدين، ولا هي ضد الدين بالمطلق، هم غوغائيون أكثر منهم أصحاب مدرسة رزينة.

ومن حيث هم يرفعون شعار الحداثة، فإنهم يمثلون جانبًا من أزمة الحداثة والتجديد، حيث إن أسلوبهم وطريقتهم وضآلة التحصيل العلمي ومهاجمة كل ما له علاقة بالدين لا تجعلهم قادرين على خلق بيئة مواتية لهم، أو لفت انتباه الجمهور العام لهم.

زكريا وحنفي والعشماوي وأبوزيد.. نهج مختلف

فؤاد زكريا، وحسن حنفي، ومحمد سعيد العشماوي، ونصر حامد أبوزيد -بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معهم- نماذج لنخبة هي أفضل وأكثر علمًا وجهدًا بحثيًّا من بقية الفريق الذي يجعل الناس تكره الاستنارة أو التنوير أو التجديد طالما كانوا هم مصدره والداعين له، ويدفعون الناس للتمسك أكثر بحالة الجمود والأرثوذكسية التراثية والثقافية والدينية.

المفكرون في المغرب العربي أكثر نضجًا وتطورًا وانفتاحًا وقبولًا لدى الجمهور العام، وهم يتجنبون الصدام مع العقيدة، وهم يحترمونها، ولا يتجرؤون عليها بعكس ما يحدث من بعض المفكرين في مصر، حيث إن لديهم مهارة كبيرة في الاستفزاز والاستعلاء، وتشكيك الناس فيما يؤمنون به.

هز الوجدان والعقل في أفكار الخرافات ونقدها، ومحاولة القضاء عليها شيء، والتطاول على العقائد والنصوص الثابتة شيء آخر مختلف، في الأولى نجد ضرورة، وفي الثانية إثارة فتنة.

لا أثر لمن يطعنون في الدين

مع هذا يجب على الجمهور العام الاطمئنان، إذا كان سيد القمني وفريقه يطعنون صراحة في الإسلام، والوحي، والقرآن، والرسل.. هنا نسأل: كم شخصًا يتأثر بهم؟ وكم فردًا يسير في ركابهم؟ أتلفت حولي فلا أجد كثيرين يعرفونهم، أو يسمعون بهم، رغم أن الإعلام والفضاء العام وحرية الحركة والقول مُتاحة لهم، ولا يُتاح كل ذلك بقدر متساوٍ لمن يختلفون معهم، وأقوم بتوسيع الرؤية فأجد الناس تتمسك بعقيدتها، وتدافع عنها.

وللاطمئنان أكثر نقول: ماذا كان سيد القمني، وكل من سيأتون بعده، مقارنة بعتاة مشركي الجاهلية الذين لم ينجحوا في هز الدعوة حينما كانت وليدة وتضم أفرادًا قلائل، ومع هذا انتصرت عليهم تدريجيًّا، وبدأ العود يشتد وصار الإسلام ينتشر ويؤسس دولة قوية تقوم على العقل الرشيد والتفكير القويم والإيمان والأخلاق والمعاملات الحسنة، وأصبح يزيح كل الإمبراطوريات، ثم ينتشر بشكل واسع في مختلف أصقاع الأرض.

سقوط أخطر فتنة

واحدة من أخطر القضايا التي تعرض لها المسلمون كانت فتنة خلق القرآن خلال عهد الخليفة العباسي المأمون، ومن بعده المعتصم بالله، ثم الواثق بالله، واستمرت نحو 14 عامًا (218هـ/833م –  232هـ/ 847م)، ولم تتوقف إلا بمجيء المتوكل على الله لحكم الدولة العباسية، وقد سقطت الفتنة، وزالت المحنة، بفضل صمود الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه وأرضاه الذي تمسك بأن القرآن غير مخلوق، وأنه حديث الله.

ولهذا، فإعلان النفير العام خشيةً على الإسلام من شخصيات تتحدث ويعتريها شطط وتشكيك واجتراء على الدين نفسه، مبالغة وخوف على ما لا ينبغي الخوف عليه، فالإسلام ليس بيتًا هشًّا ضعيفًا حتى نخشى عليه من هذا أو ذاك، الضعف قد يعتري المؤمنين بهذا الدين، وليس الدين نفسه.

من هو سيد القمني بجانب طابور طويل من عتاة المستشرقين الذين بحثوا ونقبوا وقرؤوا وتفحصوا في الدين والقرآن والتراث وقدموا أفكارًا وقراءات وكتبًا للتشكيك ثم زالوا وبقي الإسلام قويًّا جاذبًا للناس لأنه دين فطرة وحقيقة وعقل وحرية، والقرآن معجزة وإعجاز، وطوال أكثر من 1400 سنة لم يستطع أي كاره أو معاند أن يحاكي آية واحدة فيه.

المشكلة ليست في سيد القمني، ولا غيره، ولا المستشرقين، فهؤلاء لا جمهور لهم، ولا أحد يتجاوب معهم، عندما يتجاوزون الثوابت المستقرة المتفق عليها ويتطاولون عليها، المشكلة عندنا نحن في البيت الإسلامي.

الإسلام والتجديد الحقيقي

المشكلة في كيف نحترم هذا الدين ونطبقه على الوجه الصحيح على أنفسنا أولًا في تعاملنا ومعاملاتنا؟ وكيف نقدم صورة أخرى للعالم عنه وعنا غير صورة بن لادن والظواهري والزرقاوي والبغدادي والقرشي والقاعدة وداعش وحركة الشباب وبوكو حرام وغيرها من تنظيمات وجماعات التشدد والتطرف والإرهاب.

كيف نقدم صورة مغايرة لصور الاستبداد والقمع والحروب الأهلية والدماء والفقر والمجاعات والتشرد والتهجير والفساد في بلدان الإسلام، وأن نتوقف عن الحديث في فكرة المؤامرة الخارجية علينا، فنحن المتآمرون على أنفسنا، وهذا العنف والتخلف والجهل ينبع من بيئاتنا لأسباب سياسية اقتصادية اجتماعية فكرية ثقافية تراثية.

مهما تآزر تيار الهدم تحت عنوان التجديد والعقلانية، فلن يحرك وتدًا في الدين من مكانه.

والآخر الأجنبي خاض معارك شرسة فكرية وثقافية وتشكيكية وعسكرية ضد المسلمين في بلادهم خلال تاريخ طويل، ومع هذا لم ينكسر الإسلام، الذي ينكسر هم المسلمون، فقد صارت شعوبه الكثيرة والكبيرة مجرد كثافة عددية بلا أثر أو تأثير في حركة العالم وصناعة الحضارة.

سؤال الحقيقة: هل نحن المسلمون نرغب في الخروج من التخلف القاتل إلى التحضر المشرق أم لا؟ وهل نريد أنوار الحرية، أم نبقى في ظلمات الجهل، بعيدًا عن تُرّهات القمني ومن يشبهه؟

بالفعل، نحن بحاجة ماسة إلى تجديد حقيقي يقوم بغربلة التراث والنهج والفكر والممارسات والتفسيرات والمنتج البشري التاريخي، وليس التشكيك في الدين والعقيدة والمقدسات والثوابت والسماء وكل ما أفاضت به على الأرض من وحي وخير وسلام للبشرية.

المصدر : الجزيرة مباشر