الصراع على رئاسة مصر [الجنزوري صراع الفرعون والكاهن الأكبر] (5-6)

الجنزوري مع مبارك

صعد الجنزوري من أدنى درجات سلّم البيروقراطية المصرية، إلى أن صار محافظًا للوادي الجديد، فوزيرًا للتخطيط، فرئيسًا للوزراء لأكثر من مرة في تاريخ مصر.

لم يكن هذا الصعود “سريعًا”، بل استغرق قرابة نصف قرن من الزمان‼ لكنه ظل منقوصًا، إذ لم تتحقق الخطوة الأخيرة في حلم الجنزوري بالسلطة، وهي أن يعتلي في آخر السلّم الوظيفي “الرئيس” التي كانت بالنسبة له درجة ترقٍ واجبة ومستحقة بالأقدمية، وتراكم الخبرة التنفيذية.

كان الجنزوري –رحمة الله عليه– يعتقد أن خبراته البيروقراطية، كفيلة أن تعوّض مهاراته السياسية “الصفرية”، فالرجل كان كبيرًا لكهنة معبد البيروقراطية، وكان مجردًا من الحد الأدنى من الفهم السياسي، والمرونة السياسية، والقبول بالآخر –أي آخر– سواء كان من كهنة المعبد ذاته، أو مؤيدًا للنظام أو معارضًا له.. من منطلق أن من لا يتبع الكاهن الأكبر فهو كافر أو متآمر أو جاهل.

في السنوات –الأولى– التي قضاها الجنزوري في رئاسة وزراء مصر، خلفًا لعاطف صدقي، خسر فيها  الأطراف كلها، وكانت البداية بغالبية أعضاء مجلس الوزراء، الذي كان يديره بمنطق الكاهن الأكبر، فلم يبقَ معه سوى طلعت حماد، الذي كان بطبيعته ومنطقه التأمري الفاسد، سببًا في صدام الجنزوري بالجميع.

خسر أيضًا بعد أركان السلطة التنفيذية، أعضاء السلطة التشريعية “البرلمان” الذي كان يتعامل معه وكأنه المبنى المواجه لمجلس الوزراء وحديقته الخلفية، وكان ختام المعارك الصفرية للجنزوري، معركته مع جمال مبارك وأسرة مبارك، ثم مبارك نفسه‼

اتصال مبارك بي

اختلفت واتفقت، مع الجنزوري، وقت توليه رئاسة الحكومة، وعضويتي في البرلمان، وبلغ الصدام يومًا إلى الحد الذي حمل بعض المسؤولين على التدخل لعقد لقاء بين الدكتور الجنزوري وبيني بمكتبه في مقر رئاسة الوزراء.

وبعد ساعات قليلة من نهاية اللقاء تلقيت مكالمة هاتفية من الرئيس مبارك، يطلب فيها معرفة ما دار في اللقاء المنفرد بيني وبين الجنزوري!! وبقدر ما أدهشني اهتمام مبارك بمثل هذه التفاصيل، بقدر ما أدهشني أكثر الروح العدائية التي تحدّث بها مبارك عن الجنزوري.

سألت نفسي، وبعض العارفين ببواطن الأمور، عن سبب اتصال مبارك بي، بينما الأقرب للمنطق كان اتصاله برئيس الوزراء الذي يعمل معه!! وكانت الإجابات التي تلقيتها تدور جميعها في إطار العلاقات المتوترة بين مبارك والجنزوري بسبب اعتداد الأخير بنفسه، خلافًا لما تعوّد عليه مبارك من العاملين معه المنسحقين أمامه وأمام زوجته وابنه!!

ليس سرًا أن الجنزوري اصطدم بجمال مبارك وقت حادثة محاولة اغتيال مبارك في بورسعيد، ورفض الطريقة التي تحدّث بها جمال مبارك، وتضاعف الصدام بينهما بسبب إصرار جمال على بقاء يوسف بطرس غالي بالحكومة ورفض الجنزوري له، ووصف الجنزوري لغالي بأنه يعمل لحساب صندوق النقد، حتى أنه كان يستبعده من حضور الاجتماعات مع الصندوق لهذا السبب، ويعلن ذلك!!

ومن أبرز المواقف التي حملت مبارك على سرعة التخلّص من الجنزوري، هي رفض الجنزوري إدراج اعتمادات إضافية لرئاسة الجمهورية في الموازنة العامة، قبل إفادته بأوجه إنفاق الاعتمادات السابق إدراجها!! فضلًا على رفض الجنزوري بقاء بعض الوجوه الوزارية التي كانت شديدة الارتباط بأسرة مبارك.

هذه المواقف -وغيرها- كانت تشف دائمًا عن صلابة الجنزوري وعناده في مواجهة طغيان سلطة مبارك، وهيمنته الدائمة على الوزراء ورؤساء مجالس الوزراء السابقين واللاحقين على الجنزوري، وربما هذا ما يفسّر خروج الجنزوري بطريقة بدت مهينة وعدائية من السلطة، وربما كان هو الوحيد من رؤساء الوزراء الذي لم يعيّن في موقع بعد خروجه، وظل سنوات طويلة لا يدعى لأي احتفال يحضره مبارك، بينما توجّه الدعوة لمن قبله ومن بعده!!

ورغم الخلافات التي وقعت -مرات عديدة- بيني وبين الجنزوري، بحكم موقعي نائب زعيم المعارضة البرلمانية في ذاك الوقت، إلا أني يومًا لم أفقد ثقتي في طهارة يد الرجل، وخبرته في التخطيط، وصناعة الموازنة العامة وإدارة المراحل الصعبة، وربما يكون هذا هو ما حمل حزب «غد الثورة» على أن يقترح -دائمًا- اسم الجنزوري من ثلاثة مرشحين للمجلس الرئاسي المدني، أو لرئاسة الوزراء، مع الوزير الأسبق منصور حسن، والدكتور محمد البرادعي.

فالرجل الذي خرج من السلطة منذ سنوات بعيدة لم ينفصل عن عشقه للإلمام بالأرقام، التي يحفظها عن ظهر قلب، وبحثه عن حلول للأزمات مستخدمًا خبرته الطويلة في الإدارة كونه وزيرًا للتخطيط لسنوات طويلة، ومحافظًا، ورئيسًا للوزراء.

الكلمة الأخطر

عندما التقينا في رحاب الأزهر الشريف لمناقشة “وثيقة الأزهر” كانت كلمة الجنزوري الأخيرة من بين المتحدثين من المرشحين المحتملين للانتخابات الرئاسية، لكنها كانت بالفعل الأخطر، لما تضمنته من معلومات عن الأوضاع الخطيرة التي آلت إليها قطاعات مختلفة من قطاعات الدولة، وما قدمه من حلول عاجلة في إطار كلمته.

كعادة الجنزوري، أفسدت حساباته الواقعية محدودية حساباته ومهاراته السياسية، فلم ينجح في خلق ظهير شعبي يساند انتخابه لموقع الرئيس، مما حمله للتراجع عن الفكرة، والارتماء إلى أقصى درجة في حضن المجلس العسكري، واستمرار خلافاته القديمة والمتجددة مع القوى السياسية.

أشهد أن الرجل كان أقوى من سلفه عاطف صدقي، وأنظف من خلفه “عبيد ونظيف”، لكنه كان من أكثر المستبدين المدنيين الذين صادفتهم في حياتي، وكنت دائمًا أصفه أنه مستبد لا يلبس “الكاكي” من خارجه، لكن اللون “الكاكي” يسكن داخله، ويحمله أن يرى نفسه رقمًا وحيدًا بين أصفار، فكل من يعارضه خائن، وكل من يختلف معه متآمر عليه.

اختلف مع مبارك، وتصادم مع سطوة أسرته ونجله، لكن لم يكن هذا الصدام على خلفية ديمقراطية أو منهجية، بل كان خلافًا بين الفرعون والكاهن الأكبر.

المصدر : الجزيرة مباشر