هل تنجح إجراءات المركزي المصري في خفض الواردات؟

البنك المركزي المصري

 

في العام المالي الأخير 2020/ 2021 المنتهي آخر شهر يونيو الماضي، بلغت قيمة المدفوعات الأجنبية المصرية للخارج 120 مليار دولار، وتضمن التوزيع النسبي لتلك المدفوعات استحواذ الواردات السلعية على نسبة 59% من الإجمالي، تليها مدفوعات فوائد ودخل الاستثمارات الأجنبية بمصر بنسبة 10%، وأقساط القروض الخارجية 10%، والاستثمار الأجنبي المباشر الخارج من مصر 7%.

ثم تدنّى نصيب باقي أنواع المدفوعات ليقتصر على 4% لمدفوعات الخدمات بخلاف السياحة والنقل، و2% للسياحة الخارجة و1.5% لخدمات النقل بأنواعه من بحري وجوي وبري المدفوعة، و1% للمصروفات الحكومية بالخارج، وأقل من ذلك لاستثمارات المصريين بالبورصات الدولية واستثماراتهم المباشرة في دول العالم.

وفي ضوء نقص العملات الأجنبية بالبنوك حاليا، الذي عبر عنه تخطي العجز لصافي الأصول والالتزامات بالعملات الأجنبية أكثر من 10 مليار دولار بنهاية العام الماضي، احتاجت البنوك إلى سحب جانب من أرصدتها بالخارج، وزيادة التزاماتها الخارجية خاصة من القروض.

وقد دفع هذا الأمر السلطات النقدية إلى البحث عن وسائل لتقليل المدفوعات الدورية للخارج، ومن ذلك طلب تأجيل دفع أقساط الدين لدول الخليج الثلاث السعودية والإمارات والكويت، في ضوء استحواذ الواردات السلعية على نسبة 59% من تلك المدفوعات التي بلغت حينذاك 71 مليار دولار.

وهي القيمة التي زادت خلال العام الميلادي الماضي إلى حوالي 84 مليار دولار في توقعات مبنية على أرقام الشهور الـ11 الأولى من العام التي أعلنها جهاز الإحصاء البالغة 77 مليار دولار.

مستندات التحصيل أفضل للمستوردين

وقد قرر البنك المركزي المصري في الثالث عشر من الشهر الحالي منع تمويل الواردات من خلال مستندات التحصيل، والاقتصار في تمويلها على الاعتمادات المستندية، لتقليل الضغط على العملات الأجنبية، واستعدادًا لرفع الولايات المتحدة الفائدة في الشهر القادم، مما سيدفع كثيرا من الأجانب الحائزين على أدوات دين حكومية مصرية إلى التخلص من جانب منها، وبالطبع تراجع المشتريات الجديدة، وهو المورد الذي كانت السلطة النقدية تعوّل عليه لمساندة احتياطيات النقد الأجنبي.

ويتيح التمويل من خلال مستندات التحصيل الذي منعه البنك المركزي، دفع المستورد جزءا من قيمة البضاعة، وقد لا يدفع شيئا قبل وصول البضاعة إليه، اعتمادا على الثقة الناجمة عن التعاملات السابقة بينهما، ثم يقوم بدفع القيمة أو الباقي منها على دفعات خلال عدة شهور قد تصل إلى ستة، وهو هنا يدفع القيمة بعد بيع البضاعة أو جزء كبير منها.

أما الدفع من خلال الاعتمادات المستندية، فيتطلب من المستورد إيداع كل قيمة البضاعة المطلوبة بمجرد الاتفاق عليها قبل وصولها بفترة مما يعني تعطيل دوران أمواله، كما قد لا يتاح للكثيرين من المستوردين خاصة الصغار منهم والمتوسطين، تدبير كل قيمة البضاعة مما يضطرهم إلى الاقتراض من البنوك بفائدة، وهي الفائدة التي يتم تحميل تكلفتها على البضائع الواردة مما يرفع ثمن الواردات.

ولقد أبدى رجال الأعمال تضررهم من قرار منع مستندات التحصيل التي يرون أنها أسرع وأيسر لهم، وبالفعل استجاب البنك المركزي لبعض مطالبهم باستثناء 14 سلعة من المنع، لكنه أبقى استخدام الاعتمادات المستدنية في غالبية السلع، كي يحقق هدفه في تقليل الواردات السلعية المترتبة على صعوبة تدبير كثير من المستوردين قيمة البضائع قبل وصولها، خاصة مع ظروف الركود بالأسواق خلال السنوات الأخيرة التي زاد فيروس كورونا من حدتها.

   رؤية ضبابية لغياب كميات الواردات

ويظل السؤال الأهم هو هل ينجح البنك المركزي في مسعاه لخفض قيمة الواردات؟ وتنقصنا للإجابة الدقيقة عن هذا السؤال معرفة كميات البضائع التي تم استيرادها خلال العام الماضي، لمقارنتها بالكميات المستوردة في السنوات السابقة لمعرفة مدى تطور تلك الكميات، وأثر الركود بالأسواق عليها، نظرًا لعدم إعلان جهاز الإحصاء الحكومي كميات البضائع كما تفعل عدة دول عربية وأجنبية، واكتفائه بنشر قيمة سلع الواردات.

وفي ضوء الزيادات السعرية التي لحقت بغالبية السلع العام الماضي دوليًّا، يصبح من الصعب القول إن كمية الواردات زادت خلال العام الماضي، حيث زاد سعر خام نفط برنت بنسبة 66% خلال العام الماضي، وزاد سعر القمح 31% والذرة 44% والزيوت النباتية 66%، والسكر 38% ومنتجات الألبان 17% واللحوم 13% خاصة لحوم الدواجن.

كما زادت أسعار المعادن الأساسية ومنها القصدير بنمو بلغ 81% والنحاس 51% والحديد 49% والألومنيوم 45% والنيكل 34%، كما ارتفع مؤشر أسعار القطن 40% والمطاط أكثر من 20%، إلى جانب زيادة سعر الشاي والأخشاب وغيرها من السلع، ومن الطبيعي أن يقلل ارتفاع الأسعار الطلب.

ونعود إلى السؤال الرئيسي هل يمكن أن يؤدي قرار البنك المركزي بمنع مستندات التحصيل وما سبقه من إنشاء وزارة المالية منصة نافذة التي تطلب من المستوردين إبلاغها مسبقا بالشحنات التي ينوون استيرادها قبل الشحن، وانتظار موافقة مصلحة الجمارك على الشحن أو رفضها له، إلى جانب اشتراط وزارة التجارة والصناعة تسجيل المصانع الأجنبية التي يتم الاستيراد منها بإحدى جهاتها التابعة، هل يمكن أن يؤدي كل ذلك إلى خفض قيمة الواردات؟

وتظل الإجابة أنه من الصعب خفض قيمة الواردات في مجتمع يزيد بحوالي مليوني شخص كل عام، كما تتسم مشروعاته القومية بعدم الاعتماد على دراسات الجدوى، وبالتالي تتوسع في استيراد المستلزمات لتلك المشروعات مثل العاصمة الجديدة ومطار العاصمة الإدارية وغيرها.

هذا إلى جانب رفض العديد من الدول الإجراءات المصرية، ومن ذلك طعن الاتحاد الأوربي في قرار تسجيل المصانع الأجنبية لدى منظمة التجارة العالمية وقوله إنه مخالف لقواعد التجارة الدولية، ووجود اتفاقيات تجارة حرة بين مصر والعديد من الدول والتجمعات الاقتصادية تتيح دخول بضائعها لمصر بدون جمارك مقابل دخول الصادرات المصرية بلادها بدون جمارك، وكانت وزيرة التخطيط قد أعلنت مسبقا أن نسبة 60% من الصادرات المصرية عبارة عن مكونات مستوردة.

 مكونات الواردات يصعب الاستغناء عنها

والأهم من كل ما سبق هو طبيعة الواردات السلعية المصرية، حيث أشارت بيانات الواردات خلال الأشهر الأحد عشر الأولى من العام الماضي إلى أن التكوين النسبي للواردات يجعل 35% تتضمّن سلعا وسيطة أي منتجات تحتاج إليها صناعات أخرى، مثل المواد الأولية من الحديد والألومنيوم والكيماويات والورق والخيوط وإطارات السيارات وخلاصات الدباغة والصباغة، وأجزاء السيارات وأجزاء التليفونات وزيوت الطعام، وكلها سلع لا يكفي الإنتاج المحلي منها لتغطية احتياجات الاستهلاك.

كما تضمنت الواردات 13% من المواد الخام منها القمح والذرة وفول الصويا والسمسم والتبغ وخامات الحديد، وهي أيضا لا يمكن الاستغناء عنها، يضاف إلى ذلك 13% من السلع الاستثمارية مثل المحركات والمولدات الكهربائية والمضخات والمصاعد، وآلات النسيج والأجهزة الطبية والسنترالات والجرارات والأتوبيسات وسيارات نقل البضائع، وغالبيتها لا تُنتَج في مصر.

كما تشتمل الواردات 12% من الوقود، وربما يظن البعض أنها كلها نفط خام يتم تكريره بمصر، لكن قيمة واردات المشتقات كانت أكبر من واردات النفط الخام، مع استمرار ضعف نسبة الاكتفاء الذاتي من بعض المشتقات وأبرزها البوتاغاز.

وتبقى نسبة 27.5% من الواردات تمثل السلع الاستهلاكية التي يرى البعض أنه يمكن الاستغناء عنها، وهي تنقسم إلى سلع استهلاكية معمّرة وسلع استهلاكية غير معمّرة، ومن السلع الاستهلاكية المعمّرة التي يتم استيرادها الثلاجات والغسالات والتلفزيونات وسيارات الركوب والأثاث وأجهزة التليفون.

أما السلع الاستهلاكية غير المعمّرة فمنها: اللحوم والأبقار والجواميس الحية والأسماك والعدس والشاي والدقيق والأدوية والمحضرات الصيدلية والفول والزيوت المكررة ولعب الأطفال. ونظرا لعدم إنتاج مصر للشاي فلابد من أن تستورده، ومع عدم كفاية إنتاجها من العدس والفول واللحوم والأسماك والأدوية والأعلاف فلابد من أن تستوردها.

وهكذا تشير طبيعة سلع غالبية الواردات إلى أنه من الصعب الاستغناء عن استيرادها، لأن الزراعة والصناعة المحلية لا تنتج الكميات الكافية منها للاستهلاك المحلي، وتقليل استيرادها سيرفع أسعارها وسيدفع البعض لتهريبها مثلما يحدث مع أجهزة التليفون المحمولة والأقمشة والملابس الجاهزة وغيرها.

ويظل الحل الرئيسي هو الاهتمام بالاستثمار المحلي وتشجيع الاستثمار الأجنبي لزيادة إنتاج السلع محليا، لكنه حل طويل الأجل خاصة مع إنتاج السلع الوسيطة والسلع الاستثمارية، لهذا ستظل كميات الواردات تتزايد، بدليل أنه خلال السنوات الماضية عندما كانت قيمة الواردات تقل لأسباب معينة، مثل نقص العملة الأجنبية أو فيروس كورونا فإن أرقامها تقفز في السنوات التالية.

المصدر : الجزيرة مباشر