ما تأثير وسائل الإعلام في العمل الدبلوماسي وتشكيل العلاقات الدولية؟!

أدّى تطوّر وسائل الإعلام إلى ثورة في عملية بناء العلاقات الدولية والعمل الدبلوماسي، فقد كان من نتائج ذلك التطور تغيير مفهوم القوة في السياسات العالمية المعاصرة، حيث صارت قدرة الدولة على التحكم في تدفق المعلومات، وبناء صورتها الذهنية من أهم مصادر القوة.

لذلك عملت الدول على بناء قوتها الإعلامية لتحقيق أهدافها، واستخدامها في جذب الجماهير، وإقناعها بتأييد سياستها.

ومفهوم قوة الجاذبية صار يرتبط بقدرة الدولة على تصوير نفسها للعالم بأنها صاحبة قيم ومبادئ تتمسك بها وتحرص على تطبيقها، وتنطلق منها في سياستها الخارجية، وأنها تستخدم وسائل الإعلام في الدفاع عن هذه المبادئ.

تأثير المعلومات في العلاقات الدولية

ولقد صار تدفق المعلومات إلى الجماهير يؤثر بشكل كبير في العلاقات الدولية، لذلك صارت قنوات التليفزيون العالمية فاعلًا في بناء النظام العالمي، حيث تعد المصدر الرئيس للمعلومات عن الشؤون العالمية.

نتيجة لذلك ظهر مفهوم “النظام العالمي الذي تتحكم فيه وسائل الإعلام”، وهذا المفهوم يشير إلى قوة وسائل الإعلام للتأثير في قرارات الدول، وأساليب التفاعل بينها، وإدارة الأزمات والمفاوضات.

وسائل الإعلام وبناء صورة الدولة

وبعد أن اتضحت أهمية الصورة الذهنية للدولة في تحقيق أهداف سياستها الخارجية عملت الدول كلها على بناء علاقات مع وسائل الإعلام الأجنبية والمراسلين الأجانب بهدف تشكيل صورة إيجابية للدولة.

وتستخدم الدول وسائل الإعلام للتأثير في الجمهور الخارجي، وغرس السمات الإيجابية لصورة الدولة في أذهان الجمهور، ولكسب تأييدها لمواقف الدولة وسياساتها في الأحداث العالمية.

لذلك ظهر مفهوم “كسب العقول والأرواح” عن طريق بناء صورة إيجابية للدولة تؤثر في الرأي العام للدول الأجنبية.. حيث صار هناك قدر من الاتفاق بين علماء السياسة على أن الرأي العام يمكن أن يضغط على الحكومات لتبني سياسة الدولة عندما تنجح في غرس صورة إيجابية لها في أذهان الجمهور، ولذلك طوّرت الكثير من الدول وسائل إعلامية تخاطب الجمهور الخارجي مثل الإذاعات الدولية التي لعبت دورًا مهمًا خلال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق.

الحاجة إلى دبلوماسي جديد!

لذلك أدركت معظم الدول الحاجة إلى إعادة تأهيل الدبلوماسيين لتعليمهم أساليب التعامل مع وسائل الإعلام، والتأثير في الرأي العام في الدول الأجنبية، وبناء صورة إيجابية للدولة.

وكانت الولايات المتحدة الأمريكية هي أول دولة تعبر عن تلك الحاجة عقب نهاية الحرب الباردة.

فالدبلوماسي صار الآن يعمل في بيئة عالمية جديدة، وفي نظام عالمي تحكمه وسائل الإعلام، لذلك فإن الأساليب التقليدية التي تقوم على السرية لم تعد تصلح في عالم يقوم على الشفافية وتدفق المعلومات، ويواجه مشكلات جديدة تحتاج إلى تطوير قدرات الدولة على الاتصال بالجمهور في الدول الأجنبية، والتأثير في اتجاهاته ومواقفه، ودفعه للضغط على الحكومات لاتخاذ قرارات معينة.

الدبلوماسية الإعلامية وإدارة الصراع

ولقد تطورت عملية إدارة الصراع في العصر الحديث، وصار لوسائل الإعلام دور مهم في هذه العملية، وفي التوصّل إلى حلول للصراعات عن طريق المفاوضات والاتفاقيات، وكذلك التأثير في الرأي العام لتأييد عملية التوصّل إلى حلول للصراعات.

لذلك يقوم السياسيون باستخدام وسائل الإعلام لإرسال رسائل إيجابية للطرف الآخر.. وتتخذ هذه الرسائل في بعض الأحيان شكل التسريبات، وتصوير الدولة بأنها تسعى لتحقيق السلام، بينما الطرف الآخر هو الذي يصر على استخدام القوة.

كما يتم تسريب مقترحات لوسائل الإعلام دون الإسناد إلى مصدر محدد، أو نسبتها إلى مصدر ثانوي عندما تكون الدولة غير متأكدة من استجابة الطرف الآخر.

قناة الاتصال الوحيدة

في الصراعات والأزمات العالمية التي لا يكون فيها اتصال مباشر بين دولتين، تستخدم وسائل الإعلام وسيلة وحيدة لنقل الرسائل والإشارات للطرف الآخر.. وتستطيع الدولة التي تتحكم في تدفق الأنباء والمعلومات، وتمتلك قوة إعلامية أن تفرض رؤيتها لحل الصراع.

في ضوء ذلك صارت وسائل الإعلام فاعلًا في إدارة الصراعات، والتوصّل إلى حلول لها عن طريق المفاوضات التي تقوم على نقل الرسائل والاقتراحات بين الأطراف.

لذلك طوّر قادة الدول أساليبهم وخططهم للتعامل مع وسائل الإعلام، واستخدامها في تحقيق أهداف سياستهم الخارجية، وأدى ذلك إلى التقليل من الأدوار التي يقوم بها السفراء والدبلوماسيون التقليديون.

وقد قامت قنوات التليفزيون العالمية خلال العقود الثلاثة الماضية بدور مهم في عملية تبادل الرسائل بين أطراف الصراع.. لكن قادة الدول واجهوا مشكلات نتيجة الرد بسرعة على الرسائل دون دراسة في بعض الأزمات.

إن رد حاكم الدولة أو أحد الوزراء أو الدبلوماسيين على الرسالة بشكل سريع يمكن أن يؤدي إلى فشل عملية الاتصال الدبلوماسي، وعدم التوصّل إلى حل للمشكلة، وفي الوقت نفسه فإن عدم الاستجابة للرسالة، أو تأخير الرد عليها يمكن أن يعطي انطباعًا برفض الدولة للتوصّل إلى حل، وهذا يزيد عداء الجمهور للدولة، وبناء صورة سلبية لها.

مشكلات الاتصال الدبلوماسي عبر وسائل الإعلام

هذا يعني أن الاتصال الدبلوماسي عبر وسائل الإعلام يحمل معه الكثير من المشكلات، فوسائل الإعلام تحتاج إلى تغطية سريعة للأحداث، ويقوم المراسلون بتوجيه الأسئلة لصناع القرار بشكل مستمر، وهذا يؤدي إلى ظهور قادة الدول بصورة العاجز عن اتخاذ القرارات في الوقت المناسب.

كما أن وسائل الإعلام يمكن أن تقوم بشيطنة الخصم، وهذا يؤدي إلى تزايد تأييد الجمهور داخل الدولة لاستخدام القوة في مواجهته، وعدم التوصّل لحلول سلمية كما حدث خلال العدوان الأمريكي على أفغانستان والعراق.

تأثير البث المباشر في الدبلوماسية

أثر البث المباشر في العمل الدبلوماسي، والاتصال بين الحكومات، وعلى اتصال الحكومات بالشعوب داخل البلاد، وفي الدول الأجنبية.

كما تزايد تأثير الصور التي تبثها قنوات التليفزيون على عملية صنع القرارات خاصة خلال الصراعات والأزمات، حيث أجبرت قادة الدول والحكومات على سرعة اتخاذ القرارات، والتعامل مع الأحداث.

الدبلوماسية الإعلامية الصينية في أفريقيا

من أهم الحالات التي يمكن أن تكشف لنا الحقائق عن أهمية الدبلوماسية الإعلامية، ودور وسائل الإعلام في تحقيق أهداف السياسة الخارجية استخدام الصين لشبكتها التليفزيونية العالمية (سي جي تي إن)، والتي تسيطر عليها الحكومة الصينية في بناء علاقاتها مع الدول الأفريقية.. حيث استطاعت الصين أن تبني صورتها في أذهان الشعوب الأفريقية، وتؤثر بشكل تدريجي في السياسة الخارجية للدول الأفريقية.

وقد استطاعت الصين أن تقدّم نفسها باستخدام تلك الشبكة للشعوب الأفريقية شريكًا في التنمية والتجارة، وأنها تقدّم برامج للتعاون مع الدول الأفريقية.

وبذلك تمكّنت الصين من مواجهة الولايات المتحدة وأوربا في أفريقيا، واستطاعت أن تلبي حاجة الدول الأفريقية لعلاقات دولية تقوم على الشراكة والتعاون واحترام استقلال الدول، واستثمار ثرواتها لتحقيق مصالحها.

وقد استغلت الصين الفرصة، فاستخدمت شبكتها التليفزيونية العالمية للتأثير في الشعوب الأفريقية، ولدفع حكوماتها لتطوير علاقاتها مع الصين.

ولقد استثمرت الصين الكثير من الأموال في تطوير شبكتها التليفزيونية العالمية التي أثبتت أنها قوة مؤثرة في علاقات الصين الدولية خاصة في أفريقيا حيث أقامت الصين مقرًا لشبكتها التليفزيونية في العاصمة الكينية (نيروبي) عام 2006، وتقوم بإنتاج برامجها الموجّهة إلى أفريقيا في هذا المركز.

ومن الواضح حتى الآن أن الصين نجحت في بناء صورتها الإيجابية في الدول الأفريقية، بالإضافة إلى بناء علاقات مع الإعلاميين الأفريقيين للتأثير في تغطيتهم للصين، وتقديم روايتها للأحداث للشعوب الأفريقية.

لذلك فإن دراسة الدبلوماسية الإعلامية الصينية في أفريقيا يمكن أن توضّح لنا كيف يمكن أن نستخدم وسائل الإعلام في بناء علاقات دولية تتناسب مع تطلعات الشعوب الأفريقية وآمالها، بحيث تقوم على التعاون والمشاركة واحترام الاستقلال.

المصدر : الجزيرة مباشر