اغتيال شيرين أبو عاقلة.. إجرام متجذر!

شيرين أبو عاقلة

مصاب جلل أصاب الصحافة الفلسطينية والعربية باغتيال الصحفية مراسلة الجزيرة الشهيرة شيرين أبو عاقلة في الضفة الغربية المحتلة صباح أمس برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي. الخبر استقبله الفلسطينيون والعالم العربي وكل أحرار العالم بألم شديد وحزن عميق.. إنها عملية اغتيال مقصودة، فالقاتل يعرف الضحية جيدا وأصابها من أجل تصفيتها وليس إبعادها، وهو ما يؤكد حالة الارتباك التي تعيشها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، وكذلك حالة الارتباك بين القرار السياسي والقرار العسكري، فقرارات رئيس الوزراء الإسرائيلي تريد فتح النار بشكل كبير في أي منطقة وتحت أي ظرف، بهدف رفع فاتورة الضحايا الفلسطينيين، في تجاوز غير مسبوق لكل الأعراف والمواثيق الدولية. لذلك شاهدنا استهداف الصحفيين في مشهد شديد التعقيد اليوم، فالصحفيون كانوا يرتدون السترات الواقية والخوذ والزي الرسمي في مكان مكشوف، ومع ذلك تم استهداف الصحفي الأول من جريدة القدس، ثم استهداف شيرين أبو عاقلة برصاصة قناص في الرأس، مما يعني أن ثمة استهدافا ممنهجا لقائمة الصحفيين لتهديدهم وإسكاتهم وإبعادهم بشكل قسري عن مسرح جرائم الاحتلال، إنها رسالة واضحة يرسلها جيش الاحتلال وحكومته الهشة المتطرفة، بأنهما سيمنعان الصحفيين بشكل كبير من تغطية جرائمهما عن طريق الاستهداف المباشر لحياتهم.

“الارتباك سيد المشهد”

يعيش جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ شهر ونصف حالة من الارتباك لأنه يواجه مقاومة شعبية فلسطينية لا تقتصر على فصائل المقاومة فحسب، بل تشمل الشعب بأكمله وعبر جيل جديد من الشباب من خارج الفصائلية يناضل باستراتيجية “البندقية المفتوحة” باتجاه الاحتلال وهو ما أحدث صدمة وزلزالا وحالة من الارتباك داخل المؤسسة العسكرية والسياسية. وأمام هذا المتغير الجديد في الساحة الفلسطينية يبدو واضحا أن قوات الاحتلال تمهد لجريمة كبيرة بحق الشعب الفلسطيني المناضل، تبدأ أولًا بالصحفيين من أجل إرهابهم وإبعادهم عن ساحة جرائمه، وفي هذا السياق يأتي استهداف الصحفية شيرين أبو عاقلة بعملية يمكن وصفها بأنها إعدام ميداني لكل من يريد أن يكشف ويفضح جرائم الاحتلال، ومقدمة لجرائم أخرى سيرتكبها ضد أبناء الشعب الفلسطيني المناضل.

لقد سبقت عملية اغتيال “شيرين “جملة من تصريحات التحريض الإسرائيلي من قبل مسؤولين ووزراء ونواب في الكنيست، على الصحفيين الفلسطينيين في ظل صمت كافة المنظمات الدولية التي لم نسمع بكاءها إلا على صحفيين قتلوا في الحرب الأوكرانية على يد الجيش الروسي، في صورة فجة من صور ازدواجية المعايير التي يعاني منها الغرب، ونحن ندين قتل الصحفيين في أي مكان كما ندين كافة أشكال الاحتلال.

“الدافع: جيل جديد أولي بأس شديد”

إن جريمة اغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة هي أكبر شاهد على أن الصحفيين الفلسطينيين يتعرضون لجرائم ممنهجة رغم ارتدائهم الشارة الصحفية الواضحة، وهذا دليل قاطع على أن دولة الاحتلال تعيش زلزالا وصدمة جراء جيل فلسطيني جديد أولي بأس شديد ينسف صفقة القرن ويدشن ضربة القرن.

نعم، دولة الاحتلال تواجه جيلا جديدا يمكن تسميته بـ”جيل الـ2000) جيل بوعي جديد، ورث روح النضال، وضبط البوصلة نحو هدفه المركزي، لا يعرف الفصائلية ويتجاوز الانقسام، ولا يهمه النزاع على السلطة، قوي في مواقفه، عينه على عدوه، يختار توقيت عملياته ومغزى التوقيت ودلالته بعناية فائقة بما يحقق الهزيمة الروحية للكيان الصهيوني، ويكشف ازدواجية المعاير الأمريكية والأوربية حيال مقاومة الاحتلال في أوكرانيا وفلسطين، فيضرب بذلك منظومة القيم التي يتدثر بها الغرب، جيل يأخذ المبادرة بتكتيك جديد أبهر حتى فصائل المقاومة المنظمة.. جيل حيّر كبار المحللين في الغرب والشرق، فقد كانوا يتوقعون أن يكون جيل صفقة القرن، فإذا به يدشن على طريقته “ضربة القرن”.

إن المعركة الأخلاقية التي ترفعها أمريكا وأوربا في أوكرانيا تخسرها في الشرق خصوصا أمام صمتها على جرائم الاحتلال الإسرائيلي في أبناء الشعب الفلسطيني وخصوصا الصحفيين منهم. إن جيل الـ2000 الفلسطيني أربك مؤسسات الاحتلال العسكرية والأمنية، فهو جيل يعي جيدا ما يفعل، يضرب ضربات استراتيجية لها أكثر من بعد، وبقراءة واعية لكل الأحداث الإقليمية والدولية، يعرف كيف يخلط الأوراق وكيف يغير قواعد الاشتباك، وينسف الخطوط الحمر. اليوم هذا الجيل يعطي الحل وكلمة الفصل متجاوزا كل خلاف ونزاع داخلي يغذيه المحتل.. هذا الجيل يجسد روح الأمة في مواجهة الروح الصهيونية، برؤية استراتيجية أعمق تتجاوز أخطاء الماضي، فلا يصطدم مع الفصائل ولا مع السلطة، ولا يدع شيئا يشغله عن هدفه المركزي.. هذا الوضع الجديد في ساحة المقاومة الفلسطينية، وراء ارتكاب جيش الاحتلال جريمة هذا الاغتيال الجبان، إنها جريمة مكتملة الأركان.

“رسالة شيرين الأخيرة”

نقلت شيرين عبر ما يزيد على ربع قرن آلاف المواقف والمشاهد من الأرض المحتلة، وصفت من خلالها بدقة مدى بشاعة الاحتلال وأسلوبه الغادر، ولكنها أبت أن تغادرنا إلا وهي تجسد بنفسها خلاصة آلاف الوقائع التي نقلتها عبر تاريخ عطائها. رسمت شيرين بتضحياتها وتفانيها المشهد الختامي الذي يليق بها وبشجاعتها وهي تتلقى رصاصة الغدر من قناص الاحتلال الدنيء، رسمت لنا شيرين في مشهد استشهادها ما سيبقى في مخيلة الأجيال باعثًا للثورة والمقاومة والنضال وكأنها تركت وصيتها لشعبها دون كلمات ولكن في مشهد سطرته بدمائها هذه المرة.. وداعًا ابنة القدس الشريف التي وهبت نفسها للنضال من أجل تحرير فلسطين، بسلاح الكلمة، ترهب العدو الصهيوني وتقض مضجعه، وتوقظ ضمير الأحرار في العالم، عبر نقل حقيقة همجية ووحشية المحتل.. عزاؤنا لأسرة البطلة شيرين أبو عاقلة ولزملائها الصحفيين ولقناة الجزيرة وللشعب الفلسطيني الحر، ولكل صوت حر شريف، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

المصدر : الجزيرة مباشر