العلاقات الدولية المحيرة.. ومفهوم الصديق العدو

وزيرا خارجية الولايات المتحدة وباكستان في الأمم المتحدة

يعد مفهوم الصديق العدو مدخلا مهما جدا في فهم العلاقات الدولية الملتبسة، ففي السياسة الدولية بشكل عام توجد علاقات متميزة وواضحة، وهي علاقات التحالفات والعداوات، والتاريخ القديم والحديث والمعاصر حافل بأمثلة كثيرة على التحالفات، كالتحالف بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وبين الولايات المتحدة وبريطانيا، وثمة أمثلة كثيرة وواضحة أيضا للعداوات مثل العلاقة بين الهند وباكستان، والعلاقة بين أرمنيا وأذربيجان..

أما ما يسمى بعلاقة “الصديق العدو” فهي محيرة جدا، لأن طرفي تلك العلاقة يقومان بدور الصديق والعدو في نفس الوقت، وزعماء هذه الدول يتحاربون ليلا ويتصافحون نهارا رافعين شعار “فلنتعاون فيما اتفقنا عليه وليقاتل بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه”.

أمريكا وباكستان

ثمة مثال واضح على هذه النوعية من العلاقات؛ علاقة الأمريكان بباكستان، هل هي علاقة صداقة أم عداوة؟، فمن بعض الجوانب يمكن اعتبارها علاقة تحالف، ومن جوانب أخرى يمكن تسميتها علاقة عداوة، وللتذكرة فأكثر من 75% من الباكستانيين وفقا لمؤسسة بيو للأبحاث واستطلاع الرأي يعتبر الولايات المتحدة عدوًّا، في حين أن 10% فقط من الأمريكيين يثقون في أن باكستان حليف مهم.

ويعني ذلك أن هذه العلاقة أنها تبدو للوهلة الأولى علاقة عداء واضحة، لكن يظهر التناقض بين البلدين فيما يلي: الولايات المتحدة تدعم باكستان، وباكستان تدعم طالبان أفغانستان، وطالبان تقتل الجنود الأمريكان على الأراضي الأفغانية منذ عام 2001 خلال الحرب التي انتهت مؤخرا بالانسحاب الأمريكي، فيبدو الأمر وكأن باكستان الحليف الأمريكي يقتل الجنود الأمريكان، فلو طبقنا هذا المفهوم الجديد على العلاقة بينهما فسيصبح الأمر واضحا جدا، فباكستان تصرفت كحليف مع الولايات المتحدة في “الحرب على الإرهاب” وتحديدا عندما تعاونت باكستان مع أمريكا في حربها على تنظيم القاعدة وعلى جماعات أخرى اتهمتها الولايات المتحدة بالضلوع في تفجيرات استهدفت المصالح الأمريكية كان أهمها أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، لكن يبقى موقع باكستان مهما جدا في نظر الولايات المتحدة باعتبارها ممرا بين المحيط الهندي وبحر العرب وآسيا الوسطى كلها، وأفضل مكان تدخل منه الولايات المتحدة إلى أفغانستان الدولة الحبيسة. وبالتالي فإن باكستان تصرفت كحليف وخاصة عندما أمدت الولايات المتحدة بمعلومات استخبارية مهمة في حربها على الإرهاب، لكنها أيضا تصرفت كخصم عندما آوت بعضا من قيادات تنظيم القاعدة وعلى رأسهم الشيخ أسامة بن لادن الذي اغتالته الولايات المتحدة، ولم تخطر باكستان بهذه العملية لأنها لا تثق فيها رغم التحالف بينهما، كذلك تصرف البلدان كعدوين حين قامت باكستان رغم أنف الولايات المتحدة بدعم طالبان في حربها ضد القوات الأمريكية على الأراضي الأفغانية. سلوك كل طرف تجاه الآخر عبارة عن قصة طويلة تعود جذورها لتفاصيل الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وكذلك الحرب الساخنة بين باكستان والهند، خلاصتها في كلمة واحدة هي “المصالح”، فإذا كانت باكستان تحتاج إلى الولايات المتحدة، فهي أيضا تحتاج إلى طالبان لاعتبارات سياسية وأمنية واجتماعية وجيوسياسية.

“كانت حالات معزولة والآن باتت سائدة”

هذا النوع من العلاقة “حليف وخصم وعدو” في وقت واحد، ليس قصرا على الولايات المتحدة وباكستان، بل انتشر بين دول كثيرة، حتى أصبح هو القاعدة. الجديد في هذا الشأن أن هذا النوع من العلاقة كان فيما مضى من التاريخ يمثل حالات معزولة وقليلة، أما الآن فقد أصبح هذا النوع من العلاقات هو السائد في العلاقات الدولية، ولو وضعنا أمامنا خريطة العلاقات الدولية لوجدنا أن معظم العلاقات الدولية السائدة بين الدول الآن تتبع هذا المفهوم، وعلى سبيل المثال لا الحصر:

1- العلاقة بين الصين وروسيا، فالبلدان متحالفان في كثير من الساحات والمجالات كالطاقة والسلاح، ومتوافقان في مجلس الأمن والأمم المتحدة، لكن الغريب أن تجد روسيا تحتاط طوال الوقت لمواجهة محتملة مع الصين بحكم التاريخ الملتبس بينهما، تدعم الصين في مطالبها في بحر الصين الجنوبي، وفي نفس الوقت تبيع السلاح لفيتنام التي تشتريه استعدادا لمواجهة محتملة مع الصين.

2- علاقة اليابان بكوريا الجنوبية، علاقة مُحَيِّرة جدا، فلا تدري أهما صديقتان أم متعاديتان؟!
فالدولتان بينهما كل ما يدعو إلى التحالف ومعاهدة سلام منذ الستينيات، وهما متحالفتان مع الولايات المتحدة، ولهما أعداء مشتركون (كوريا الشمالية، الصين، روسيا) وفي نفس الوقت بينهما ما يصنع الحداد، في الحقيقة هما صديقتان ومتعاديتان.

3- ومن الأمثلة الإقليمية علاقة المغرب بالجزائر، هناك حرية تنقل بين سكان البلدين، وحرية نقل السلع وفتح الخطوط الجوية وسكك الحديد، بل يوجد أنبوب نفطي لربط الجزائر بأوروبا عبر المغرب، ويجمعهما أكثر مما يفرقهما، لكن في نفس الوقت بينهما  عداء شديد في ملف قضية الصحراء الغربية على وجه الخصوص، وكلا الطرفين في حالة تأهب ضد الآخر، وقد سبق أن أدّى الخلاف إلى اندلاع “حرب الرمال” بينهما في أكتوبر/تشرين الأول 1963 التي أسفرت عن مقتل العشرات، قبل أن تنتهي بوساطة عربية أفريقية لوقف إطلاق النار.

“أسباب تعاظم ظاهرة الصديق العدو في السنوات الأخيرة”

الإجابة المختصرة هي “المصالح”، علمًا بأن لغة المصالح موجودة منذ فجر التاريخ، لكن الجديد في الأمر هو نظام العولمة، ففي ظل هذا النظام وانفتاح العالم على بعضه، ظهرت حاجة ملحة إلى الاعتماد المتبادل بين الدول، حيث تحتاج كل دولة إلى الدول الأخرى أكثر من أي وقت مضى، وبالتالي عندما يحدث خلاف تضطر الدول حفاظا على مصالحها إلى أن تحصر الخلاف في ملف محدد، وتتعاون في الملفات الأخرى، مثال ذلك علاقة الصين بالولايات المتحدة، كلاهما يتمنى إزاحة الآخر من صدارة العالم ويتصرفان تصرّف الخصوم والأعداء، وفي نفس الوقت يتصرفان وكأنهما حليفان، وقد ارتفع حجم التبادل التجاري بينهما في 2021 ليصل إلى 279.64 مليار دولار أميركي، فرجال الأعمال الأمريكان يصنعون ثرواتهم في الصين، وكثير من الطلاب الصينيين يدرسون العلم في أمريكا، لكن في نفس الوقت تتصرف هاتين الدولتين تصرف الخصوم وتتنافسان برا وبحرا وجوا وفي كل شيء، وهذا التنافس يصل إلى حد العداء في جبهات محددة كبحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان.

وكذلك تأتي العلاقات الروسية التركية أبرز مثال في فهم العلاقات الدولية المعقدة وفهم كثير من الملفات التي تقوم على التناقض الكبير جدا، والدور الكبير الذي تلعبه لغة المصالح وحدها.

رحم الله أبي الطيب المتنبي فقد لخص كل ما سبق في بيت عبقري من الشعر قال فيه: ومن نَكَدِ الدّنْيا على الحُرّ أنْ يَرَى * عَدُوًّا لَهُ ما مِن صَداقَتِهِ بُدُّ

المصدر : الجزيرة مباشر