إلغاء اجتماع المجلس الاستراتيجي التركي اليوناني.. الأسباب والمآلات

رئيس وزراء اليونان في زيارة للكنيسة المسكونية في إسطنبول (مارس الماضي)

جاء إعلان الرئيس أردوغان بإلغاء اجتماع المجلس الاستراتيجي مع اليونان بمثابة تحول جديد في مجرى علاقات تركيا مع جارتها، في وقت تسعى فيه إلى تحسين علاقاتها الدبلوماسية، والعودة مجددا إلى سياسة صفر مشاكل، التي انتهجها حزب العدالة والتنمية منذ وصوله إلى السلطة، حتى أصبحت العلامة المميزة في مسيرة علاقات أنقرة الخارجية.

صحيح أن الأمور في السنوات الماضية الأخيرة شهدت نوعا من الإرباك والارتباك في العديد من القضايا السياسية التي شهدتها المنطقة والعالم، مما أدى إلى اختلاف الرؤى ووجهات النظر، وتضارب المصالح، الأمر الذي ألقى بظلاله على العلاقات الدبلوماسية التركية، إلا أن الساسة الأتراك بدؤوا مؤخرا في العودة إلى نهجهم القديم، واستئناف مسيرة تصفير المشاكل، وهو ما بدا واضحا في عودة العلاقات الطبيعية مع كل من السعودية والإمارات، والسعي لوضع أسس جديدة لبناء علاقات دبلوماسية مع أرمينيا، وتشكيل مجلس مشترك خصيصا لهذا الغرض، إلى جانب رصد محاولات لإنهاء النقاط الخلافية بين تركيا ومصر تمهيدا لاستئناف العلاقات بينهما.

لذا أثار القرار التركي مخاوف في الأوساط السياسية الدولية خصوصا على صعيد الاتحاد الأوربي وحلف الناتو خشية أن يكون ذلك مقدمة لبداية مرحلة جديدة من التصعيد بين البلدين، قد تؤدي إلى الدخول في مواجهة عسكرية في وقت يعاني فيه العالم من جراء الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، وليس بحاجة إلى اندلاع حرب جديدة في هذا التوقيت على الأقل.

أسباب القرار التركي

أسباب عدة تقف خلف القرار التركي، أحدثها تلك التصريحات التي صدرت عن رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس أمام الكونغرس الأمريكي خلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة الأمريكية، حيث حذر من خطورة الموافقة على منح تركيا صفقة طائرات أف -16، وحثّ المسؤولين الأمريكيين على التأني والتعامل بعقلانية عند التعامل عسكريا مع تركيا، مع التلميح إلى ضرورة استمرار الحظر المفروض على عضوية تركيا في برنامج تصنيع الجيل الحديث من طائرات أف -35، الذي يعد أحد أسباب الخلاف التركي الأمريكي المعلنة.

وهو الموقف الذي رأت فيه تركيا نوعا من العدائية غير المبررة تجاهها في وقت تمد فيه يد السلام، وتسعى إلى تقريب وجهات النظر لتحسين العلاقات بين البلدين، حيث كان آخر لقاء جمع أردوغان وميتسوتاكيس في مارس/ آذار الماضي، وتحدثت أثينا بعده عن ما وصفته بـ”الأجواء الإيجابية” التي سادت هذا اللقاء الثنائي، كما أعلنت تركيا أن هناك توافقا على أهمية تنقية الأجواء، وتحسين العلاقات، ومحاولة العمل على إنهاء الخلافات بينهما من دون وسيط.

اتهام تركيا لليونان بخيانة العهد

لذا اعتبر الرئيس التركي أن رئيس الوزراء اليوناني خان العهد، وأنه لم يكن صادقا معه، خصوصا أنهما اتفقا على أهمية حل خلافات البلدين من دون تدخل أطراف أخرى، رافضا بحزم التعامل معه مجددا لكونه رجلا لا يحافظ على كلمته، وهو -أي أردوغان- لا يتعامل إلا مع الأشخاص الشرفاء الذين يحفظون عهودهم، على حد تعبيره.

وفي هذا الإطار يمكن أيضا فهم التصريح الذي صدر مؤخرا عن الرئيس أردوغان في تعليقه على سبب رفض بلاده انضمام كل من السويد وفنلندا لحلف الناتو، قائلا إن بلاده لن تكرر الخطأ الذي سبق أن وقع فيه الساسة الأتراك حينما وافقوا على ضم اليونان للناتو، اعتقادا منهم أن ذلك سيدفعها لقبول عضوية تركيا في الاتحاد الأوربي، وتخليها عن سياستها العدائية والعمل لإنهاء الخلافات المرتبطة بترسيم الحدود البحرية وفق ما تنص عليه المواثيق والاتفاقيات الدولية، وهو ما لم يحدث.

كثيرة هي القضايا الخلافية بين الدولتين، وهي مرتبطة في مجملها بمشاكل ترسيم الحدود البحرية في شرق البحر المتوسط، وتحديد المجال الجوي لكلا البلدين، إلى جانب القضية القبرصية، وقضية اللاجئين، وهي القضايا التي تسببت في أزمات سياسية كبيرة، وتصريحات عدائية متبادلة، كادت تؤدي إلى مواجهة عسكرية، آخرها في منتصف 2020، حينما أصرت تركيا على التنقيب عن الغاز والنفط في مياهها الإقليمية المتنازع عليها مع اليونان، ومع تدخل الاتحاد الأوربي، والمساعي الدبلوماسية التي بذلت وافقت تركيا على تهدئة الأوضاع مع احتفاظها بحقها في التنقيب شرق المتوسط والحفاظ على حقوق القبارصة الأتراك.

محاولات تركيا إنهاء خلافاتها مع اليونان ليست وليدة اليوم، فقد سعى الرئيس عبد الله غول أيضا حينما كان رئيسا للجمهورية إلى بذل جهود كثيرة في هذا المجال، وتوصلت الخارجية التركية آنذاك إلى وضع المسودة الأولية لعدد من الاتفاقيات في مجال التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري إلا أن الأمور ظلت تراوح مكانها منذ ذلك الوقت.

وبدا واضحا لتركيا أن اليونان تستخدم معها استراتيجية الاحتماء والاختباء، تارة وراء أوربا، وتارة أخرى وراء الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تلوح مرة بسيف العقوبات الأوربية مستغلة في ذلك حرص بعض الدول الأوربية خاصة فرنسا، على توظيف ورقة المخاوف اليونانية والقبرصية من تركيا من أجل إبقاء الأخيرة خارج المنظومة الأوروبية، عبر توجيه اللوم إليها على أي تحرك لا ترضى عنه اليونان، وفرض عقوبات عليها.

كما توظف حاليا التطور الذي شهدته علاقاتها السياسية والعسكرية والاستراتيجية مع إدارة بايدن لضرب المصالح التركية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتحريض واشنطن على أنقرة، بل تهديدها بأن واشنطن ستقف إلى جوارها إذا تصاعدت الأمور، حماية لليونان حليفتها الجديدة، وحفاظا على مصالحها وقواعدها العسكرية بها.

سبب تأرجح اليونان في علاقاتها مع تركيا

ويبدو أن موقف المسؤولين اليونانيين المتأرجح في علاقاتهم مع تركيا سببه الحقيقي يعود إلى الخوف المتزايد مع اقتراب عام 2023، الذي يوافق مرور مائة عام على إبرام معاهدة لوزان (1923) التي تم بمقتضاها ترسيم الحدود الجغرافية بين البلدين، وهي الاتفاقية التي يعارضها الرئيس أردوغان بشده، وأعلن مرارا رغبته في إعادة صياغتها بما يضمن إعادة الكثير من الجزر إلى بلاده، خصوصها أنها أقرب إلى الأراضي التركية، وقد منحتها الاتفاقية عنوة لليونان، وهذا التعديل إذا تم سيعني تغيير مناطق النفوذ الجغرافية في شرق المتوسط تحديدا، الأمر الذي يخشاه اليونانيون بشدة، لكونه -وفق وجهة نظرهم- سيؤدي إلى خسارتهم الكثير من الثروات والأراضي والنفوذ في المنطقة لصالح تركيا.

المصدر : الجزيرة مباشر