بيعةُ أبي بكرٍ الصّدّيق كانت “فَلْتةً” فكيف تكون خلافَتُه سليمة؟ وما دلالاتُ الوصف؟

 

نعم، كان بعض الصّحابة الكرام -رضوان الله تعالى عنهم أجمعين- يصفون البيعة التي تمّت لأبي بكر بأنّها فلتة، بل إنَّ عمر نفسه وصفها بذلك.

ففي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في آخر حجّة حجّها قبل وفاته سمع رجلًا يقول “لو قد مات عمر لقد بايعت فلانًا، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمّت!”.

فغضب عمر لذلك، وقرّر أن يخطب في الحجّاج موضّحًا ما جرى، فنصحه عبد الرّحمن بن عوف أن يؤجّل ذلك إلى حين عودته للمدينة حتّى لا يثير كلامه في الحجّ الذي يحوي أخلاطًا كثيرة من النّاس مسألةً تُفهم على غير مرادها فتطير في الآفاق، بخلاف واقع المدينة حيث تتوفّر البيئة المناسبة لطرح هكذا قضيّة.

وقد قال له كما في صحيح البخاري “يا أميرَ المؤمنين لا تفعل، فإنّ الموسم يجمع رعاع النّاس وغوغاءهم؛ فإنّهم هم الذين يغلبونَ على قربك حين تقوم في النّاس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالةً يطيّرها عنك كل مُطَيِّر، وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينةَ فإنّها دارُ الهجرة والسّنة فتخلص بأهل الفقه وأشراف النّاس فتقول ما قلتَ متمكنًا فيعي أهلُ العلم مقالتَك ويضعونَها على مواضعها”.

بيانٌ سياسيّ عُمريّ حول وصف بيعة أبي بكرٍ بأنّها “فلتة”

وفعلًا أخذ عمر بهذه النّصيحة، وعندما عاد إلى المدينة كان أوّل شيءٍ فعلَه أنّه وقف على المنبر ليلقيَ بيانًا سياسيًّا يناقشُ فيه هذه القضيّة، فكان ممّا قاله “إنّه بلغني أنّ قائلًا منكم يقول: والله لو قد مات عمر بايعت فلانًا، فلا يغترنّ امرؤٌ أن يقول: إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتةً وتمَّت، ألا وإنّها قد كانت كذلك! ولكنّ الله وقى شرّها، وليس منكم من تُقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، مَن بايع رجلًا عن غير مشورةٍ من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه، تَغرَّةً أن يقتلا!”، ثم روى قصة بيعة أبي بكر بتفاصيلِها الكاملة، فيما يمكن وصفه ببيانٍ سياسيٍّ تاريخيّ.

دلالات وصف البيعة أنّها “فلتة” والخلاصات المُستفادة

وهنا نجدُ أنَّ عمر -رضي الله عنه- يقرّ أنّ خلافة أبي بكرٍ الصّدّيق -رضي الله عنه- كانت فعلًا “فلتةً”، ولكن قبل المسارعة إلى بناء تصوّرات ذهنيّة تنتجُ عنها قناعاتٌ تاريخيّة اعتمادًا على هذه الكلمة تقود إلى التشكيك بصحّة البيعة، فلا بد من تأكيدِ الآتي:

أولًا: إنَّ كلمة “فلتة” في كلام عمر والصّحابة الكرام معناها “فجأة”، كما ذكر ابن الأثير في “النّهاية في غريب الحديث والأثر”، وهو المعنى الرّاجح المتّسق مع المعنى اللّغوي، أي أنّ البيعة أتت بشكل مفاجئ للجميع، وكان هذا بسبب الاجتماع المفاجئ للأنصار في سقيفة بني ساعدة، وهذا توصيف دقيق لما جرى، وهناك معنى آخر لها وهو أنّها كانت بسبب ما حدث من تفلّت في السقيفة، والتفلّت هنا معناه التّشاجر والتّنازع كما ذكره ابن الأثير أيضًا؛ أيّ أنَّ المبادرة التي قام بها عمر إلى مبايعة أبي بكرٍ -رضي الله عنهما- سببها محاولة قطع الطريق على التنازع والتفرّق المتوقّع، والذي بدأ يطلّ برأسه من بين حوارات السّقيفة.

ثانيًا: يعبّر عمر -رضي الله عنه- بكلّ وضوح بأنَّ هذه الطريقة التي تمّت في مبايعة أبي بكر، لم تكن هي الطريقة المثلى التي يطمح إليها في قضيّة تسلّم الحكم، بل إنّه كان يطمع أن يكون هناك المزيد من الرويّة والشّورى، وهذا من دلالات كلمة “فلتة” في اللّغة أيضًا فهي “كلّ شيءٍ فُعل مِنْ غَيْرِ رَوِيَّة” كما عند ابن الأثير أيضًا.

ثالثًا: صحيحٌ أنّ الله تعالى قد وقى بهذه البيعةِ الأمة شرًّا كبيرًا، إضافة إلى كون شخصيّة أبي بكرٍ تصلح أن تتمّ معها البيعة بهذه الطّريقة التي لا تصلح لأحدٍ مثله؛ وهذا هو معنى قول عمر -رضي الله عنه- “وليس منكم من تُقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر”، غير أنّ هذه العجلة والفلتة ينبغي ألّا تتكرَّر لاحقًا في قضايا تسلّم دفّة الحكم؛ فإنّ أبا بكرٍ الصّدّيق لا يقاس عليه غيره في هذه الآليّة.

يقول الخطابي: “يريدُ أن السّابق منكم الذي لا يلحق في الفضل لا يصل إلى منزلة أبي بكر؛ فلا يطمع أحدٌ أن يقع له مثل ما وقع لأبي بكر من المبايعة له أولًا في الملأ اليسير ثم اجتماع النّاس عليه وعدم اختلافهم عليه لما تحقّقوا من استحقاقه فلم يحتاجوا في أمره إلى نظر ولا إلى مشاورة أخرى وليس غيره في ذلك مثله”

فعمر من خلال توصيفه لخلافة أبي بكرٍ أنّها “فلتة” ومن خلال بيانه السياسيّ الذي ألقاه تعليقًا على هذا التوصيف فإنّه يدعو إلى الشّورى المتأنية التي تدرس فيها الخيارات بهدوءٍ بعيدًا عن الاستقطابات ويشارك فيها الجميع، وكان هذا ما حرص على فعله عقب اغتياله وقبيل استشهاده -رضي الله عنه- في آخر خلافته.

المصدر : الجزيرة مباشر