لماذا تخلت الصين عن سريلانكا ورئيسها الهارب؟!

لافتة برسوم كاريكاتورية للوزير السريلانكي السابق باسل راجاباكسا، والرئيس السابق غوتابايا راجاباكسا، ورئيس الوزراء والرئيس الأسبق ماهيندا راجاباكسا

 

لم تهدأ جمهورية سريلانكا، بعد هروب الرئيس غوتابايا راجاباكسا إلى الخارج، رغم اختيار البرلمان رئيس الوزراء رانيل ويكريمسينغه رئيسا مؤقتا للبلاد، لحين انتخاب رئيس جديد عام 2024. خرج المتظاهرون من القصور الرئاسية ومقرات الحكومة، التي احتلوها الأسبوع الماضي. ظل الثائرون في الشوارع، لاستكمال النضال الذي بدأوه، والاحتفال بإزاحة عائلة راجاباكسا، التي حكمت سريلانكا على طريقة الأسر الإمبراطورية الاستبدادية الفاسدة.

تعيش البلاد فوق برميل من البارود، ويخشى الرئيس المؤقت -غير المرحب به من الثائرين لارتباطه بالرئيس الهارب- أن تسود الفوضى البلاد. الدولة لم تعد قادرة على توفير احتياجات المواطنين الأساسية، ولا تملك المال لشراء الغذاء والأدوية أو الوقود لتشغيل القطارات ومحطات الكهرباء والمدارس.

في انتظار قُبلة الحياة

ليس أمام الحكومة سوى انتظار الرد، على طلب المساعدة بقروض جديدة، تقدمت به لصندوق النقد الدولي، ليمنحها قُبلة الحياة، بعد أن تخلت عنها الصين، التي كانت الحليف الاقتصادي والسياسي للنظام، طوال العقدين الماضيين.

تواجه سريلانكا الإفلاس منذ أشهر، فقد بلغت ديونها 51 مليار دولار، ولم تستطع أن تدفع أقساط الديون السنوية المقررة عليها. بدا أن الصين -التي وعدت على لسان رئيس وزرائها لي كا تشيانغ- قدّمت وعدا كاذبا لإنقاذها، احتجاجا على تقدّم الحكومة لصندوق النقد الدولي، بطلب قرض عاجل، يمكّنها من إعادة هيكلة ديونها، وشراء القمح والبترول والغاز. تصرفات الصين أصابت النخبة السريلانكية بصدمة، بعد سقوط نظام صديقها الرئيس غوتابايا، وهي التي حمته من الإحالة إلى محاكمة دولية عام 2017 بـ”فيتو” الصين في الأمم المتحدة، لاتهامه بارتكاب جرائم حرب.

النفوذ الصيني

تسرب النفوذ الصيني إلى سريلانكا عام 2005، منذ تولي الشقيق الأكبر للرئيس الهارب (ماهيندا راجاباكسا) رئاسة الدولة، الذي كثف جهوده لتشكيل هوية أحادية العرق لبلد متعدد الأعراق. وظف ماهيندا النعرة القومية للأغلبية السنهالية البوذية، للسيطرة على إدارة البلاد، وشاركته تلك النخبة السياسية، بدعمه في البرلمان، عندما أراد تغيير الدستور، ليظل في الحكم أكثر من دورتين رئاسيتين، واستخدامه الملاحقات الأمنية والقتل والإخفاء القسري للمعارضين، ومنهم المسلمون الذين يمثلون 10% من تعداد السكان، والترويج له كبطل قومي، استطاع سحق المعارضة وقتل 40 ألفا من جبهة نمور التاميل.

دعمت النخبة سياسة ماهيندا الشعوبية، والمؤيد لتوسيع النفوذ الصيني في سريلانكا، وتلقفته الصين المعروفة بتقاربها مع النظم الاستبدادية والفاسدة، لتوسيع نفوذها في جنوب وشرق آسيا. زاد التقارب بين البلدين، عقب وصول الرئيس شي جين بينغ إلى السلطة عام 2012، الذي اعتبر سريلانكا “لؤلوة” ضمن سلسلة اللآلئ، من الجزر والدول التي تقع على مسار “الحزام والطريق” وعبور السفن بين المحيطين الهادي والهندي.

بعد فشل ماهيندا في الاستمرار بمنصبه لفترة ثالثة، بانقلاب دستوري، تمكّن بعد فترة قليلة من الدفع بأخيه (غوتابايا) لرئاسة البلاد عام 2019، بينما احتفظ لنفسه برئاسة الوزراء، وزرع عائلته في قيادة عدة وزارات ومؤسسات حكومية ليتحكم في نفقات المشروعات العامة لـ80% من ميزانية الدولة. شكلت عودة عائلة راجاباكسا إلى السلطة، تحولا استراتيجيا لدى الصين، ففتحت خزائنها، لخدمة العائلة المنبوذة دوليا، وأغدقت على النخبة المؤيدة لها.

أصبحت الصين المُقرض الأكبر لسريلانكا، فقد منحت العائلة الحاكمة، شركة تشاينا هاربور الهندسية “CHEC” امتياز إنشاء ميناء هامبانتوتا، ومطار ماتالا الدولي، وميناء كولومبوستي، ومشروعات البنية الأساسية الضخمة من طرق وجُسور، بالإضافة إلى معابد وقصور وملعب ضخم للكريكيت، في منطقة هامبانتوتا -حيث عائلة الرئيس- يتسع لعدد أكبر من سكان عاصمة الإقليم.

الديون الخفية

غرقت سريلانكا في قروض بلغت 6.5 مليارات دولار، للحكومة والبنوك الصينية، بالإضافة إلى “الديون الخفية”، وهي القروض التي تحظر السلطات الصينية الكشف عنها بموجب شروط تنفيذ المشروعات المرتبطة بها.

بُنيت المشروعات من دون دراسات جدوى، وأقيمت في مناطق تخدم مصالح النخبة، دون أن يستفيد منها اقتصاد الدولة، فظل الميناء شاغرا، والمطار خاويا طوال العام، ولم يبق للدولة إلا دفع الديون، في وقت بدأت تتعرض فيه لخسائر فادحة، في الزراعة والسياحة. تنازلت سريلانكا عن ميناء هامبانتوتا، و15 ألف فدان من حوله للصين منذ عامين، كحق انتفاع لمدة 99 عاما، مقابل القرض. تدير الصين الميناء لحساب شركاتها، وتقيم مدينة للمال وعقارات فاخرة، تخضع لعقود تحول دون رقابة أصحاب الأرض عليها، مما دفع الشركات الدولية إلى مقاطعة المدينة، خوفا من أن تصبح بؤرة عالمية لغسيل الأموال وإدارة التدفقات المالية الصينية غير المشروعة.

جاءت أزمة كورونا والحرب الروسية في أوكرانيا كاشفة لحجم عجز مالي، أظهر العيوب الهيكلية في اقتصاد قائم على القروض والفساد المالي والإداري وتحالف نظام استبدادي، مع نخبة سياسية فاسدة، تدير البرلمان، بعيدا عن مصالح الأغلبية الفقيرة.

وعد كاذب

تباطؤ الصين في إنقاذ سريلانكا، يثبت رسوبها في اختبار مصداقيتها، وحمايتها لأصدقائها، وإن كانت تعاني من انتشار وباء كوفيد-19 والتباطؤ في النمو الاقتصادي. أثبتت الأزمة أنها غير راغبة، أو غير قادرة على مساعدة حلفائها وقت الأزمات، أو تخشى أن يمتنع آخرون -مثلنا وفي أفريقيا- عن سداد الديون للمُقرض الكبير. فقد عطلت قرضا موعودا لسريلانكا قدره 100 مليون دولار، وترفض خطة صندوق النقد الدولي في إعادة هيكلة الديون، بما يمكّنها من الحصول على قرض قيمته 500 مليون دولار، من مؤسسات مالية تراجع ديون تلك الدول.

تفضل الصين أن تغري الأنظمة العسكرية والاستبدادية والدول الفقيرة بقروض، لتبني شركاتها مشروعات ضخمة باهظة التكاليف، وعندما تفشل الدول في سداد القروض تستولي على أصولها، وتوسع بها نفوذها الاستراتيجي. تمنح الصين القروض إلى مؤسسات حكومية، بلغت عام 2018 نحو 385 مليار دولار، بفوائد تتراوح من 3% إلى 6%، أي ضِعف ما تمنحه مؤسسات التمويل الأخرى، لتسيطر على الدول مقابل التسامح في الديون.

المصدر : الجزيرة مباشر