تحليل DNA ونسبة ابن المغتصبة للمغتصب

قضية الزنا وما ينتج عنه من حمل تحمل معها عدة استفسارات تتعلق بالحكم الشرعي، ومعظم البحوث والمقالات والقوانين تهتم أكثر بالحديث عن العقوبة، سواء عن عقوبة الزنا بالتراضي بين الطرفين، أو بغير رضا عن طريق الاغتصاب، ويتم التغافل أو عدم الاهتمام بنفس الدرجة بما يتعلق بالقضية من أحكام النسب حيث يحدث الحمل جراء هذه الجريمة، وفي أحيان يعترف الجاني بالجريمة، وفي أحيان أخرى لا يعترف، بل ينكرها، حتى ينجو من العقوبة.

القانون وحرمان ابن الزنا من الاسم

ويترتب على ذلك حرمان هذا الجنين من حمل اسم أبيه، ولأن القوانين في بلادنا في مسألة الأحوال الشخصية تستند في الرأي الشرعي إلى المذاهب الفقهية المعروفة، وقد أُخذ للأسف بأشدها ولم يأخذ بما يراعي حفظ حق هذا الجنين الذي لا ذنب له، فإنه يُحرَم من أول حق له في الحياة، وهو أن يحيا باسم أبيه بين الناس، وإن كان مقصود الفقهاء من ذلك هو الحفاظ على الأنساب من أي ادعاء، وتضييق باب نسبة إنسان إلى أي نسب دون بينة حقيقية، واعتبارات أخرى منها ما هو وجيه ومقبول، ومنها ما لا دليل عليه من الشرع أو الواقع.

فالقانون يقضي بما يلي: أن النسب يثبت بالفراش، والزنا لا يثبت نسبا، وزواج الزاني بمزنيته لا يثبت نسب الوليد إذا أتت به لأقل من ستة لأشهر، والولد للفراش مقصود به: قيام الزوجية عند بدء الحمل، لا عند حصول الولادة. هذا هو نص القانون، وهو مأخوذ من كتب الفقه المذهبي.

نسبة ابن الزنا لأبيه عند اعترافه به

معظم النقاشات الفقهية المعاصرة ناقشت نسبة ابن الزنا لأبيه عند اعترافه بذلك، وحالة زواج الزاني بمن زنى بها، في فترة الحمل، وقد دار خلاف فقهي حول حكم هذه النسبة للأب، هل تجوز أم لا؟

وقد تم هذا النقاش الفقهي فيما يسمى بالاستلحاق، أي: أن يطلب شخص إلحاق ابن بنسبه، خاصة إذا لم يكن هذا الطفل أو الابن منسوبا لأحد، وإلا فقد أغلقوا باب أن يطلب أحد نسبة ابن بين أبويه، حتى لو كانت المرأة قد حملت به من حرام مع هذا الشخص، لأن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “الولد للفراش”، أي: كل مولود من أبوين متزوجين، فهو منسوب إليهما، لوجود فراش الزوجية، إلا إذا طلب الزوج نفي نسب الولد عنه بأن اتهم الزوجة بالزنا، وهو ما يعرف في الفقه الإسلامي باللعان، فعندئذ ينفي الأب نسبة الابن له.

وهو ما حدث مع زياد بن أبيه، فقد استلحقه بعد ذلك معاوية بن أبي سفيان، بناء على توصية أبي سفيان له قبل وفاته، وظل سنوات طويلة يعرف بابن أبيه، بلا نسب، ثم ضمه معاوية وألحقه بأبيه نسبا، وكذلك طلب معاوية استلحاق جنادة الأزدي ليكون ابنا لأبي سفيان، لكن جنادة رفض ذلك، وهو موضوع له تفاصيل في الفقه الإسلامي عندما يريد شخص ضم شخص إلى نسبه، إذا لم يكن منسوبا لأب، وكان طالب الضم هو الأب الحقيقي له ولو من الزنا، أو الزواج بشبهة. وهذه مسائل مستقرة فقها وقانونا، إلى حد كبير، وليست موضع نقاش، أو تثار في المجتمع، وقد أراد الشرع الحنيف بذلك، إغلاق باب التشكيك في الأنساب.

قضية مثارة

ولكن هناك قضية أثيرت منذ فترة، وتثار أيضا بين الحين والآخر، كلما تكررت أحداثها، وهي قضية الحمل من الاغتصاب، وعندما ينفي المغتصب، أو يتناوب على فتاة أكثر من شخص اغتصابا، ولأن القانون كما ذكرت لا يعترف بالنسب إلا في حالة الزواج بمن تم بها الزنا في وقت لا يقل عن ستة أشهر، فهنا تثار مشكلة، ما الإجراء الذي يسهم به الفقهاء وعلماء الشريعة، في مثل هذه الحالات، في ظل وجود مخترع جديد اسمه: البصمة الوراثية.

البصمة الوراثية وحكم العمل بها

البصمة الوراثية هي البنية الجينية التي تدل على هوية كل إنسان بعينه، أو هي التركيب الوراثي الناتج من فحص الحمض النووي الواحد أو الأكثر من أنظمة الدلالات الوراثية، وتعرف بالحمض النووي، وهي المادة الحاملة للعوامل الوراثية والجينات في الكائنات الحية[1].

أما عن الاستفادة من البصمة الوراثية في قضية النسب، فقد أوصت ندوة الوراثة والهندسة الوراثية والجينوم البشري والعلاج الجيني، في ندوة تابعة للجمعية الطبية بالكويت حول البصمة الوراثية، بما يلي: إن الندوة “لا ترى حرجا شرعيا في الاستفادة من هذه الوسيلة بوجه عام في إثبات نسب المجهول نسبه، بناء على طلب الأطراف المعنية مباشرة بالأمر، فهي ترقى إلى مستوى القرائن القطعية التي يأخذ بها جمهور الفقهاء في غير قضايا الحدود الشرعية”[2].

وقد أجاز علماء معاصرون إجراء البصمة الوراثية في حالات مجهولي النسب مثل اللقيط، ومثل أن يدعي أكثر من شخص نسب ولد مجهول النسب، حيث يمكن الاستفادة من البصمة الوراثية لإثبات نسب في مثل هذه الحالات، بل إن ما تثبته حجة مقبولة ملزمة، إذا توافرت الشروط المطلوبة لذلك[3].

ضوابط العمل بالبصمة الوراثية في النسب

وقد وضعوا ضوابط للعمل بالبصمة الوراثية في النسب، حتى تكون وفق ضوابط شرعية مأمونة قدر الإمكان، وهي:

1ـ ألا تخالف نتائج البصمة الوراثية صدق النصوص الشرعية الثابتة من الكتاب والسنة.

2ـ أن تكون أوامر التحاليل البيولوجية للبصمة الوراثية بناء على أوامر من القضاء، أو من له سلطة ولي الأمر، حتى يقفل باب التلاعب واتباع الأهواء الظنية عند ضعاف النفوس.

3ـ أن تستعمل التحاليل الفنية للبصمة الوراثية في الحالات التي يجوز فيها التأكد من إثبات النسب للمحافظة عليها، كما في حالات اختلاط المواليد وأصحاب الجثث المتفحمة.

4ـ منع القطاع الخاص والشركات التجارية من المتاجرة بها [4].

نسبة ابن المغتصبة للمغتصب

وأما بخصوص حكم نسبة الطفل الذي ينتج عن الاغتصاب، وماذا لو رفض المغتصب أن ينتسب إليه، أو إجراء تحليل DNA؟

فما نراه هنا أن من ذهب من أهل الفقه إلى رفض نسبة ابن الاغتصاب للمغتصب، كانت وجهة نظرهم أن ماء الزاني ليس معتبرا، وحتى لا يشعر الزاني بسهولة الأمر، فيزني ثم ينسب الطفل إليه. وقد قصدوا بذلك عقاب الزاني[5]، لكن للأسف العقاب هنا سيكون للمغتصبة التي لا ذنب لها بأن تعيش بابن ليس له نسب، في ظل مجتمع نعلم جميعا نظرته لابن الحرام، أو مجهول النسب، كما أن العقاب الأكبر في هذه القضية سيكون لطفل لا ذنب له، ولا ذنب لأمه، والله عز وجل يقول: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام: 164).

كما أن المغتصب هنا يفلت بفعلته، سواء من حيث العقوبة، أو من حيث تحمله مسؤولية ما جنى وما فعل، وهو ما نتج عنه من ظلم لحق المغتصبة، ولحق الجنين الذي سيأتي للحياة بلا نسب.

جواز النسب بالبصمة لمن ثبت نسب الطفل له

وما نراه في الموضوع أنه يجبر المغتصب هنا على إجراء تحليل البصمة الوراثية (DNA)، فإذا كان القانون يجبر الإنسان على المثول أمام العدالة إذا ما اتهمه إنسان في شيك بدون رصيد، أو قضايا مالية أو غيرها، بل يجبر الشاهد أحيانا على المثول أمام القضاء، فما بالنا بقضية تتعلق بالعرض، وتتعلق بالنفس البشرية، وتتعلق بالنسل، فهنا يتعلق الأمر بعرض المغتصبة، ويتعلق بنفس بشرية هي الطفل المولود بلا أب أو نسب، فرفعًا لظلم الطرفين هنا، وحتى لا يفلت الجاني بجريمته، فإذا ثبت بطريقة قطعية لا تقبل الشك أن الجنين ولده فإنه ينسب إليه، وما قال به الفقهاء من أن النسب لا يكون إلا عن زواج، فهو كما ذكرت له سياقات وأسباب مبنية على تأمل، ولكنها ليست على نصوص قطعية، بل المصلحة هنا هي الأولى بالتقديم، وهي مصلحة الطفل، والمجتمع معا.

والمصلحة هنا متعلقة بالستر على المغتصبة، وعلى وليدها، وهو مقصد شرعي مطلوب، كما أن “تشوف الشرع إلى النسبة حقيقة مؤكدة، وما شرع الزواج، أو ما شرع الإشهار عند الزواج إلا لحفظ الأنساب، وفي القرآن الكريم نزل قوله تعالى: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله} (الأحزاب: 5)، فإذا أمكننا التحقق أو القطع بأن هذا الولد ابن لذلك الرجل، وتحقق المقصد الشرعي من تنسيبه إلى أبيه، ثم امتنعنا عن إلحاقه به لمجرد أقوال لا أدلة عليها، أو لأدلة غير قاطعة في المنع، نكون قد خالفنا هذه الآية، وقضينا بالظلم لا القسط”[6].

كما أن هناك نصوصا أخرى تدعم هذا الاتجاه، مثل حديث العابد الذي كان في بني إسرائيل، وقد وجدوا امرأة حملت من الزنى، وعند سؤالها من أبو الطفل؟ قالت: هذا العابد، فلما صعدوا إليه متهمين إياه، سأل العابد الطفل الرضيع: من أبوك؟ فأشار إلى راع يرعى الغنم في الصحراء. وإذا كان الحديث يذكر في باب معجزة نطق طفل في سن الرضاع، فإنه اشتمل على جملة مهمة، وهي سؤاله: من أبوك؟ فهنا اعتبرت أبوة الزاني لابن الزنا، رغم أن الأب الزاني لم يأت مقرا ومعترفا أو طالبا ضم الابن إليه، بل جاء الأمر في إطار التحقيق والتقاضي العرفي، فصحت هنا نسبة ابن غير شرعي لأبيه، وهو دليل وجيه وقوي في مسألتنا.

الحاجة إلى اجتهاد ينصف المظلوم

لقد تقدم العلم الحديث في مسألة إثبات الأنساب، وبخاصة فيما عرف بالصمة الوراثية، سواء من حيث نفي النسب أو إثباته، بنسبة كبيرة جدا، وأصبح يتقدم أكثر. وقد أخذ الفقه الإسلامي من قبل بما عرف بالقيافة أو القافة، وهي مسألة الأخذ بالشبه، فإن كان الطفل يشبه أباه أخذ به، إذا كان ذلك على يد خبير بها، والبصمة الوراثية أدق مئات المرات من القافة، وهو ما يدل على سعة وعظمة التشريع الإسلامي في حرصه على حفظ الأنساب، وهو الأولى بنا كذلك.

فإذا وصل العلم إلى هذه الدرجة، فلا مانع شرعا من الأخذ به، مع مراعاة الضوابط التي تضمن نزاهة من يقومون بهذه الاختبارات والتحليلات، لأنها تعمل في أخطر مساحة تتعلق بالمجتمع والإنسان وهي النسب، ونتمنى أن يتطور القانون في بلادنا ويكون أكثر حرصا على حفظ الحقوق، ومراعاة المظلومين في مثل هذه المسائل الشائكة.

وقبل القانون لا بد من اجتهاد فقهي مهم يسبقه، وأمتنا ومؤسساتنا الفقهية فيها رؤوس علمية، وفقهاء كبار، يمكنهم جسر هذه الفجوة في القوانين والحياة المعاصرة، بما يحفظ للناس دينهم ودنياهم، وبما لا يدع المجرم يفلت من فعلته، ولا يكون همنا البحث عن عقوبته فقط، بقدر ما نبحث عن معالجة ضحاياها من البشر، وهم المغتصبة، وما نتج عن الاغتصاب، فهؤلاء هم الأولى بالاجتهاد والتفكير في العلاج.


 

[1] انظر: البصمة الوراثية وعلائقها الشرعية للدكتور سعد الدين هلالي ص: 41،40. والقرائن المستحدثة ومدى حجيتها للدكتور ثقيل الشمري، ضمن مجموع مؤلفاته 4/ 111، 112.

[2] انظر: فقه القضايا الطبية المعاصرة للدكتور علي القره داغي والدكتور علي المحمدي ص: 358.

[3] انظر: مستجدات طبية معاصرة من منظور فقهي د. مصلح بن عبد الحي النجار، ود. إياد أحمد إبراهيم ص: 213.

[4] انظر: موسوعة أخلاقيات مهنة الطب (3/58).

[5] انظر: المغتصبة وأحكام الستر عليها في الفقه الإسلامي للدكتورة زينب أبو الفضل ص: 71.

[6] انظر: المغتصبة وأحكام الستر عليها في الفقه الإسلامي للدكتورة زينب أبو الفضل ص: 82.

المصدر : الجزيرة مباشر