القيادة السياسية وتحولات السياسة الخارجية: مداخل تأسيسية

يرتبط فهم الأحداث والتحولات التي تشهدها العلاقات الدولية، والسياسات الخارجية للدول بالعديد من المتغيرات، والعوامل التي يجب أخذها في الاعتبار، ومن بين هذه المتغيرات نمط القيادة السياسية في هذه الدولة، والشخصيات الفاعلة التي تقوم على صنع سياستها الخارجية، ومع أهمية هذا المتغير فقد تعددت الاقترابات التي تناولت مفهوم القيادة وأبعادها وتأثيراتها في السياسة الخارجية للدول.

القيادة السياسية: جدل المفهوم

إن دراسة القيادة السياسية تتطلب النظر إليها في السياق الثقافي الذي توجد فيه، فموقع القيادة ومكانتها وتأثيرها، يتأثر بالقيم السائدة في المجتمع، والمحيط السياسي والاجتماعي والاقتصادي السائد أيضًا، لذلك تعددت تعريفات القيادة السياسية، أمام اختلاف زوايا النظر إليها، فهناك من يوليها اهتمامًا كبيرًا ولا يرى أن هناك عملية سياسية داخل النظام السياسي، أو الجماعة السياسية والتنظيمات المختلفة لا تتأثر بالمتغير القيادي، وهناك من ينظر إلى القيادة ضمن شبكة من التفاعلات والعلاقات المتبادلة، كعلاقة القيادة بالنخبة وعلاقتها بالجماهير وعلاقتها بالمؤسسات المختلفة.

ويتم النظر إلى القيادة السياسية عمليةً على أنها قدرة وفاعلية وبراعة القائد السياسي بمعاونة النخبة السياسية في تحديد أهداف المجتمع السياسي وترتيبها حسب أولوياتها، واختيار الوسائل الملائمة لتحقيق هذه الأهداف بما يتفق مع القدرات الحقيقية للمجتمع، وتقدير أبعاد المواقف التي تواجه المجتمع واتخاذ القرارات اللازمة لمواجهة المشكلات والأزمات التي تفرزها هذه المواقف، في إطار تفاعل تحكمه القيم والمبادئ العليا للمجتمع.

كيف ينشأ القادة السياسيون؟

تختلف الظروف التي تؤدي إلى بروز القيادات السياسية من مجتمع إلى آخر، وحسب نمط القيادة ذاتها، ونمط وصول القيادة إلى السلطة فالأشكال المختلفة للصعود إلى القمة وطريقة صعودها لها أثر كبير في طبيعة النظام السياسي عامة، وكذلك في مختلف العمليات السياسية.

فالقيادة الجماهيرية (الكاريزمية) تعكس نشأتها تفاعل مجموعة عناصر: شخصية واجتماعية وتاريخية، وهذا يعني أن هذه القيادة تمتلك قدرات تؤهلها لإنجاز تفاعل إيجابي بين خصائصها الشخصية وخصائص الإطار الاجتماعي والثقافي، الذي توجد فيه، وكذلك قدرتها على حشد الجماهير وتعبئتهم وتقديم القدوة الصالحة لهم، وقدرتها على التعبير عن الشعور الجماعي.

كما أن شكل الوصول إلى السلطة يترك أثره في ممارستها وعلاقاتها بالجهات المختلفة، فالقيادة التي تعتمد في الوصول إلى السلطة على القوى الأجنبية، ستتأثر القرارات التي تصدرها، والسياسات التي تتبعها محليًا ودوليًا، ذلك أن نمط السلوك التابع سيطبع تصرفاتها، وإذا تعارضت المصالح الداخلية للدولة مع المصالح الخارجية، فإن الخارجية هي التي تسود، ويمكن ملاحظة ذلك في عمليات التصويت في المحافل الدولية، كما يمكن قياس استجابة سلوك الدولة التابعة بناء على ذلك.

مداخل فهم القيادة السياسية

تعددت مداخل تفسير ظاهرة القيادة السياسية ودراستها، فهناك من نظر إلى المتغير القيادي على أنه الركيزة التي تتوقف عليها أنماط العمليات السياسية كلها، وهناك من لم يول القيادة دورًا إلا داخل الموقع الذي توجد فيه، أو الموقف الذي تواجهه وخصائص البيئة التي تحيط بها، من بين هذه المداخل:

1ـ مدخل السمات الشخصية: يركز على السمات الخاصة للقائد، والتي لها تأثير كبير في العملية السياسية أكثر من تأثير القوى الاجتماعية والاقتصادية والأبنية المؤسسية، ومن ثم يكون من المهم في إطار هذا المدخل، معرفة نمط التنشئة التي تلقاها القائد، وخبراته المختلفة، والثقافة التي تلقاها، وما يتحلى به من مهارات فردية وقدرة على الإبداع، وكذلك طريقة عمله وأسلوبه، فسلوك القائد يتشكل ويتحدد تبعًا لتصوره وتشخيصه وتقديره وإدراكه للموقف.

ويهتم هذا المدخل بالمهارات السياسية للقائد، ووضوح أهدافه، وقدرته على التجنيد ومهاراته الاتصالية، وثقافته السياسية وذكائه وحنكته، وميزاته الفردية الأخرى كالشجاعة، وأسلوبه في التعاطي مع القضايا السياسية، وقدرته على القيام بأدوار متعددة في الوقت نفسه وتحت الظروف نفسها التي يتعرض لها، داخليًا وخارجيًا.

2ـ مدخل المكانة (الموقع): ويشير إلى موقع القائد داخل مؤسسات النظام، والصلاحيات التي تخولها له الدساتير، وعلاقاته المختلفة بالمؤسسات الأخرى (التشريعية والتنفيذية والبيروقراطية)، ومن ثم فإن تفسير القيادة ينبغي أن يأخذ في اعتباره موقع القيادة من كل ذلك وصلاحيتها، أي يفسر السلوك القيادي بالنظر إلى البناء المؤسسي الذي توجد فيه، وهامش الحركة والحرية الذي يتمتع به.

أي تفسير سلوك القيادة تبعًا للقيود والفرص التي يجب عليه مراعاتها، من حيث المدة الزمنية التي يقضيها القائد في المنصب، والإطار المؤسسي السائد، والتفاعلات الداخلية عبر الأجهزة المتعددة، وتفاعل الرئيس مع باقي المؤسسات، أو القيادات المعارضة داخل البرلمان، وكذلك علاقة الرئيس بمحيطه، بالمؤسسات الأخرى، كالأحزاب والجماعات المختلفة والمؤسسة العسكرية.

3ـ المدخل البيئي: ويركز على البيئة الداخلية والخارجية وما تتضمنانه من قيود على حرية حركة القيادة، أو من فرص تلعب دور الموارد والمساندة للقيادة، ومن ثم، فإن تفسير السلوك السياسي للقائد ينبغي ربطه بالأوضاع الداخلية (الاقتصادية، الاجتماعية، الرأي العام، الأحزاب)، والوضع الدولي السائد (الموارد والضغوط).

القيادات السياسية بين خدمة الذات وخدمة الوطن

تتعدد الوظائف التي يمكن أن تؤديها القيادة السياسية، ومن بين هذه الوظائف، تحديد أهداف المجتمع وتعريفها ووضع برنامج بالأوليات، والتوسط بين المصالح المتصارعة وتسوية الخلافات والنزاعات، وتجنيد المساندة داخل التنظيمات المختلفة وكسب الدعم والتأييد، وصناعة القرارات وتنسيق السياسات، بجانب أنها تمثل القدوة في المجتمع للنخب والأفراد والجماعات المختلفة، فالقيادة الفاعلة تمثل نموذجًا للمثل الاجتماعية، كما تمثل رمزًا للمجتمع، وتجسيدًا لطموحاته وإيجاد الشعور بالثقة.

وهذه الوظائف قد تتسع لتشمل مجالات عديدة، لكن هذا الاتساع والتضخم يكون غالبًا في الأنظمة الشمولية، حيث تتداخل شخصية القائد مع المؤسسة، بل تدمج المؤسسة في شخصية الزعيم، وقد تضيق كما هو الشأن في الديمقراطيات، فالقائد السياسي يمثل محور العملية السياسية وتفاعلاتها بحكم موضعه في قمة النظام السياسي، فضلاً عن أنه يؤدى أو يجب أن يؤدي وظائف عدة وأدوارًا لها أكبر الأثر في حياة النظام والمجتمع وتطورهما.

وحتى ينجح القائد في أداء مثل هذه الوظائف، يجب أن يجمع بين خصائص وقدرات ذاتية معبرة عن مفهوم “النبوغ السياسي” من قبيل الحساسية والذكاء والفطنة والتدبر وسعة الأفق، وبين قدرة على تطويع خصائصه الذاتية وأساليبه في الحركة والتعامل بما يتفق مع خصائص ومقتضيات مواجهة المواقف المختلفة التي تواجه المجتمع.

كما يتعين على القائد أن يدرك أيضًا أن القيادة عملية اتصال أساسه الإقناع والثقة وليس القهر أو المناورة وأنها عملية تفاعل ومشاركة، وأن يخلق الترابط بين قراراته وسياساته وبين قيم المجتمع ومبادئه حتى يصبح أداة للتعبير عن هذه القيم.

وفي الأخير يبقى التأكيد على أن الإنسان أيًا كان موقعه، يتأثر بصفات موروثة وأخرى مكتسبة، وهذه وتلك تؤثر في نوعية القرارات التي يتخذها والتوجهات التي يتبناها، إلا أن الأمر في القيادة السياسية يرتبط بالعديد من الأبعاد والاعتبارات الشديدة التعقيد في ظل تعدد المتغيرات وتسارع التحولات التي تكون لها انعكاساتها على طبيعة القائمين على أمور السلطة والحكم، وتختبر بشكل مستمر قدراتهم على التعاطي مع تلك التحولات، وإدارة الضغوط والتحديات التي يمكن أن يتعرضون لها.

 

المصدر : الجزيرة مباشر