أبلة فضيلة… المحامية التي أتقنت غناء الحكاية

أبلة فضيلة

في أحد الصباحات في ثمانينيات القرن الماضي، وأنا في بيت جدتي، حيث مؤشر الراديو ثابت على موجات إذاعة البرنامج العام المصري، وهي في غمرة ترحيبها بي، تفرش مائدة الطعام، ورائحة أقراص الطعمية بسمسم الساخنة، والفول، وصوت أبلة فضيلة وهو يصدح: “حبايبي الحلويين”، كل يوم في تمام العاشرة إلا ربع صباحًا.

يلتف الجميع حول الراديو مستمعين الى إحدى “الحواديت” في برنامج “غنوة وحدوتة”.

بعد مرور هذه السنوات كلها، وهذا العمر ما زلت أتذكر هذا الموعد، كأن تلك الساعة موسومة بصوت أبلة فضيلة، والترحم على جدتي، والآن أنا أترحم على الجميع..

“وداعًا أبلة فضيلة”، لست وحدي من يودع أبلة فضيلة، فهناك أجيال كاملة ترتبط بصوتها، وتتعلق بذكريات لا تمحى..

في ذلك الزمن كانت الحكاية إحدى الوسائل العظيمة للتعلم، في فترة ما قبل الإنترنت، وكانت جملة “ماما اقرأي لي قصة”، “ماما غني لي أغنية”، هي السائدة على لساننا ونحن أطفال، ولم تكن للأم أن تقاوم طلب صغارها هذا.

حكايات الأطفال

يقال عن الأطفال إن مهاراتهم في الاستماع ليست جيدة، فهم في الغالب يريدون الدخول في المحادثات أو ينتهي بهم الأمر إلى عدم التركيز، وترك رؤوسهم تسرح في أفكارهم الخاصة والمختلفة، ولكن عندما يسرد أحدهم قصة ما يزداد تركيزهم، وبالتالي تعزز هذه الحكايات مهارات الاستماع لديهم وتجعلهم أكثر صبرًا، وتمنحهم قدرة أكبر على الاستماع دون مقاطعة.

ولفت انتباه الطفل وإيجاد حكاية مناسبة لعمره، واختيار التوقيت المناسب ليس أمرًا سهلًا، فهو يتطلب مهارات خاصة، تمكنت منها بعض المذيعات نجمات الراديو، حتى تركت بصمات شكلت ذكريات أجيال عديدة في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات قبل أن يتاح الإنترنت للجميع.

من منا، نحن المولودين في الثمانينيات، لا يتذكر برنامج “صباح الخير”، الذي كانت تقدمة المذيعة نجوى إبراهيم عبر شاشة التلفزيون المصري، وشخصية “بقلظ” التي كان يؤديها الفنان المصري الراحل سيد عزمي التي ظلت محفورة في أذهاننا، والإذاعية سميحة عبد الرحمن الملقبة بـ”ماما سميحة”، وهي أول إذاعية تحصل على لقب “ماما”، وبرنامجها جنة الأطفال، والمذيعة سامية شرابي الملقبة بـ”ماما سامية”، وبرنامجها الشهير في فترة التسعينيات “عروستي”، التي كانت توجه من خلاله الأطفال، وتعلمهم في شكل سؤال وجواب.

ولا نستطيع أن ننسى أيضًا “أبلة فضيلة”، الإذاعية فضيلة توفيق عبد العزيز، وبرنامجها “غنوة وحدوتة”.

وعلى النقيض من الإذاعيات اللائي اخترن لقب “ماما”، اختارت الإذاعية فضيلة عبد العزيز لقب “أبلة” حتى تكون بمثابة الأخت الكبرى، والمعلمة لكل الأطفال.

لقاء غيّر مسارها

“يا ولاد يا ولاد.. تعالوا تعالوا.. علشان نسمع أبلة فضيلة، راح تحكى لنا حكاية جميلة، وتسلينا وتهنينا وتذيع لينا كمان أسامينا… أبلة… أبلة فضيلة”.

كلمات ما زلنا نحفظها، كما لو أنها كانت تتردد بالأمس، لبرنامج إذاعي ما زلنا نتذكره، كان الأشهر والمفضل لجيل الثمانينيات والتسعينيات، فيه استطاعت “أبلة فضيلة” بصوتها الحنون عبر حكايتها أن تمس مشاعر المستمعين صغارًا كانوا أو كبارًا، فتخلق الابتسامات تارة، والإثارة تارة أخرى، وتذكي مخاوفنا، تنقل المعلومات وتعبر عن المواقف بطريقة تتناسب مع وعي الطفل وعمره، فتثير خياله وتحفز فضوله.

وعلى الرغم من أنها تخرجت في كلية الحقوق، والتحقت بالعمل فور تخرجها بمكتب محاماة، فإنها لم تكمل مسيرتها في المحاماة.

التقت بالإذاعي محمد محمود شعبان، المعروف ببابا شارو عام 1953، وأعربت له عن أمنيتها بالعمل في الإذاعة، وتم تعيينها مذيعة لنشرة الأخبار عام 1953، ومع بداية البث التلفزيوني وانتقال بابا شارو للعمل به في عام 1959 وقع اختياره عليها، لتحل محله في تقديم برنامجه “غنوة وحدوتة”.

 

حكايات شهيرة ونصيحة أينشتاين

بالإضافة إلى حكاياتها، استضافت عددًا كبيرًا من الشخصيات المرموقة أمثال نجيب محفوظ، أنيس منصور، والموسيقار محمد عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ، وسيد مكاوي.. كما قدمت عددًا من الأطفال الموهوبين أمثال هاني شاكر، وكان هذا اللقاء بمثابة بدايته الفنية، كما قدمت أيضًا صفاء أبو السعود ومدحت صالح.

من أشهر حكايات “أبلة فضيلة” حكاية “أشطر الشطار”، “حيلة القاضي”، “الغني والتاجر”، “الفلاح الفقير”، “كوب اللبن”، “صح وغلط”، وغيرها الكثير، التي استطاعت بصوتها الحنون من خلال سرد حكايتها، وغناء الأغاني المصحوبة مع الحكاية أن تجذب الأطفال، وتحثهم على سماع الحكاية إلى نهايتها.

وكما يقول عالم الفيزياء الألماني ألبرت أينشتاين: “إذا كنت تريد أن يكون أطفالك أذكياء، فاقرأ لهم الحكايات، إذا كنت تريد أن يكونوا أكثر ذكاءً فاقرأ لهم المزيد من الحكايات”.

لم تكن “أبلة فضيلة” مجرد صوت إذاعي سمعه الأطفال في إذاعة البرنامج العام كل يوم على امتداد أعوام طويلة، لكنه أصبح ارتباطًا في أذهان جيل بأكمله، بما قدمته له من حكايات ظلت ثابتة في وجدانه، ورسخت فيه مجموعة من القيم العظيمة، والحكايات الإنسانية، التي مكنته من تكوين شخصيته ومفاهيمه الخاصة حول الحياة، دون مباشرة في التلقين ولا عنف في التربية، وغدت أهم أيقونات النوستالجيا أو الحنين إلى الماضي، كما نعتها الإعلامية الكبيرة نجوى إبراهيم، بأنها صارت أيقونة في عالم حكايات الأطفال عبر أجيال في مصر، ولذلك تركت فراغًا كبيرًا بوفاتها، ونعتها الفنانة والإعلامية صفاء أبو السعود بوصفها ملكة الحواديت التي شكلت وعي أجيال عدة وثقافتهم ووجدانهم.

“وتوته توته غنوة وحدوتة”، يغيب صوت “أبلة فضيلة” عن الحياة، ولكنه يرتبط بقلوب أجيال وعقولهم صاروا الآن آباءً وأجدادًا، يحاولون إيصال “الحواديت” لجيل تربى على اليوتيوب والتيك توك، في زمن تلاشت فيه “حواديت” أبلة فضيلة، وإفطار الجدات، وفقدت الطعمية سمسمها، والحياة طعمها.

المصدر : الجزيرة مباشر