الأدب يقف للتاريخ بالمرصاد

نجيب محفوظ

 

الشعر ليس حماماتٍ نُطيّرها نحو السماء

ولا نايًا وريح صبا

لكنه غضبٌ طالت أظافره

ما أجبن الشعر إن لم يركب الغضبا…

قالها يومًا نزار قباني -رحمه الله-.

السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هل تستطيع هذه المرحلة من حياتنا أن تُنتج أدبًا عظيمًا؟!

كل يوم نشهد توزيع الجوائز الأدبية (طبعًا لا نقلل من أهميتها)، والاحتفالات الباهظة والطنانة الرنانة ونتأمل هذا المخاض ونُعاينه، فنقرأ كمًا هائلًا من الروايات التي تدخل في التصفيات ثم تخرج إلى اللوائح النهائية وبتسميات طنانة أيضًا، ونتابع الحلقات التلفزيونية التي تُقدم الشعراء، وقصيدة تلو الأخرى فلا نرى إلّا وأصبح فلان نجمًا لا يُشق له غبار في زمن الغبار. مما لا شك فيه أننا نُبارك هذه الإضاءات لأنها من مستلزمات (المبدع) وبقائه على قيد التواصل والنعمة، لكن اعتراضنا هو على الإنتاج الكمّي وليس النوعي الذي نتداوله أو نتناوله ليكون ذخيرة ذهننا ومؤشر إبداعنا. هل لهذا النتاج أن يرقى إلى عبور الزمن بتصفية حقيقية عابرة لترهات العصر؟!

إن الزمن المُبستر الذي يُهان فيه الإنسان ويُطعن بالمنظومة الأخلاقية الجمعية للإنسانية، عاجز لا شك عن إنتاج إبداع يتخطى حدود الهمّ الخاص، ويتمركز في البقاء الأسمى لمخزون حضاري يرقى أن يكون إنسانيًا كونيًا، وذلك -بتقديري- لا يتجلى إلّا انطلاقًا من المحليّ والسائد الذي أعدّه الأساس الذي لا ينتجه سوى ضمير متأرق ومعجون بالهم والإبداع.

 

نحن بحاجة إلى عقل محتج على النصوص كلها 

 

فأنا لا أريد من الروائي أن يحكي لي الحكايات أو يأتي بموضوع جديد غير مطروق، أو أن يصف لي حالات متعددة تصدمني وتبكيني وتفرحني. إذا كان الأمر كذلك فإنّ عين الكاميرا لأكفأ منه، والتقنيات الحديثة لأجدى وأقدر.

هل أريد من الشاعر أن يُتحفني بكل ما هو “حديث” وغرائبيّ وتشويهي وتهويمي حتى أحكم على نتاجه وأرفعه إلى مصاف الشعر والحداثة والجوائز بقديدها وعديدها وبواكيرها ونوبلها؟! إذا كان الأمر كذلك فلنذهب إلى ألعاب الـ(puzzle) التفكيك والتركيب ربما تُعطي متعة أفضل مما يُسمى (بالشعر العظيم)، والمشكلة في قلعة الشعر تلك التي استعصت على الغزاة أن فتح رتاجها من هم بداخلها فأتى الغرباء واستباحوا عظمتها وتاريخها، وأدخلوا الباعة الجوالين وحملة البالونات الفارغة يتسيدون حجارتها ويعتلون عزّها. فتحها متفلسفو الشعر دون حدّ أدنى لحرمة أو انتماء، لا لشيء.. فقط لأنهم بائعو كلام أعجز من أن تشير إليهم صفحة في تاريخ أسود على أنهم مبدعون. إنه الشعر ما تبقى لنا من جذر أرسلوا له جرذانهم ليقضموه من تحت التراب وهم يلوحون بجبنة نوبل ومصيدة الزمن، فهنيئًا لمصيدة نوبل بعد أن هربت جرذاننا إليها..

أدّعي أن كل رواية إذا لم يكن مخزونها الفكري يسبق محتواها السردي بمئة سنة ضوئية، فلن تكون قادرة على اختراق الزمن ولن تُعمّر طويلًا، بل ستظهر كالفلاشة الضوئية التي تنتهي بعد أن تلتمع، وهنا طبعًا لا أقصد الإيديولوجية إطلاقاً، بل العمل الفني المتكامل بكل أبعاده، فكل جملة في الرواية إن لم تكن مُحمّلة بجدية الإبداع ومُنزّلة كحبة الماس في الحلية الثمينة فإنها ستسقط في المجانية والإفلاس، وإذا كانت السكبة الشعرية قاصرة ولا تدخل في العمق الحقيقي الذي يروزها بما لا يستطيعه ذهب وماس وأحجار نادرة، فإنها لا محالة تخرج مبسترة تشبه عصرها الذي يتمنّى المبدع لو لم يكن وُجد فيه. ذلك أن العصر الأجوف كعصرنا هذا أعجز من أن يحفظ أو يُحافظ على مادة حيّة وحقيقية حتى وإن وُجدت، فما لم يدخل الأديب في عميق إبداعه برؤية حقيقية ترفع من المألوف والمطروح إلى مستوى الفن النادر بحيث تبدو الأشياء بكلّيتها ومعدنها وليس بسذاجتها، بل بطراوتها ولدنها، فإنها ستمكث في الغبار الآنف الذكر. كم نحن بحاجة إلى عقل محتج على النصوص كلها التي خرّبت الذائقة وتاجرت بالأجيال القادمة. بحاجة إلى عقل من صنف نظيف يقول ولا يخشى في الحق لومة لائم ليوقظ ضمير الكون الذي أفسدوه بنصوص غريبة تشبه ما يدور من قتل وإجرام ليس في ساحتنا وحسب إنما في الساحة الكونية، وباسمنا وباسم ديننا الحنيف ظلمًا وبهتانًا.

*الأدب يقف للتاريخ بالمرصاد*

لم تصل البشرية عبر تاريخها كلها إلى مرحلة أدنى من مرحلة الانحطاط التي نعيشها اليوم، فبرغم كل ما توصلت إليه عبر ثورات التقنية وغيرها التي من المفترض أن تكون في خدمة البشرية والإنسانية، نجدها انقلبت وبالًا ليس فقط على القيم التي بُنيت عليها، لكن تخطت ذلك إلى عصر التعرّي الأخلاقي والمصلحة الشخصية الفجّة والصفاقة الفاقعة، والتلاعب حتى بجينات البشر والغذاء وتشريع المثلية وابتكار الوهم الديني الجديد.. ووووو، إلخ، ومن لا يريد أن يرى ما آلت إليه ظروف الحرب العالمية الثالثة المركبة التي نعيشها ببطء على أرضنا، موجهةً بأضداد متصارعة في العلن ومتفقة في الخفاء على اقتسام ثرواتنا وتكريس تبعيتنا وجرّنا إلى الحروب المفتعلة وإشعال المنطقة تمهيدًا لاقتسامها وتصريف مخزونهم من صناعة الأسلحة وتجريب الجديد منها حيث نُشكّل سوقًا استهلاكية كبيرة جاهزة للغبّ والاستخدام، تمامًا كما تُشكّل منطقتنا مكانًا للتقسيم والتفتيت والتجزئة، خاصة بعد أن تمّ التخطيط لاقتسامها على المستوى الاستراتيجي الدولي، يكون أعمى بصيرة أو يغطي الشمس بالغربال، ومن لا يعريهم على الأقل بقلمه يكون ملتفًا بشكل أو بآخر إليهم.

بالمحصلة نقول إن الأدب يقف للتاريخ بالمرصاد، كلما حاول هذا الأخير التزوير والتحوير فضحه علانية وبشرعية شعبية ودون حصانة. إن كل الرموز، ليس في حاضرنا بل في تاريخنا أيضًا تتعرض للمحو والتحطيم. لاحظوا كيف أصبحت القيم بحدّ ذاتها عرضة للتهشيم؟ إنهم يشنون حربًا شعواء على كل الرموز في حياتنا السياسية والثقافية والاجتماعية لدرجة نبش القبور، وتحطيم كل ما هو كبير ومهم في حياتنا وبنيتنا المعرفية.

الأدب من التاريخ كالأم التي تضرب ابنها على يديه ما حاول السرقة، وتُدخله المصحة ما تعاطى الممنوعات، ولا تتخلى عنه كلما زاد في غييه ولحق بأبناء السوء، لكنها تشكوه للعدالة الزمنية وللضمير الجمعي. مستقوية عليه بفضلها وذوقها. اكتبوا أيها الأدباء ما يمكث في الأرض ودعوا الزبد يذهب جفاء.

المصدر : الجزيرة مباشر