العراق بعد 19 عاما

الكاتب في الشأن التركي متهم لا تثبت براءته أبدا !!

حزمة من القضايا والمواضيع التي لم أتناولها بالكتابة حينها وكان يجب ذلك، لكن منذ أشهر وأنا أشعر بأن الكتابة أثقل على قلبي من جبل، بقدر حجم رغبتي في أن أبقى مراقبا لما تجود به ميادين العالم التي أفرزت النقائض على أصولها..

“جمع النقيضين من أسرار حكمته * هذا السحاب به ماء به نار”.

وترسخ في ذهني وأنا أتنقل في مشاهدها المتنوعة ما يشبه الجالس فوق بساط الريح المسحور بفكرة الخيال لما تنطوي عليه حكايات ألف ليلة وليلة. فمنذ بدء زيارتي الأولى للعراق بعد ١٩ عاما من مغادرته، لم أجد في المناطق والأماكن شيئا إلا وقد تغير.. الأجيال تغيرت. أسماء المدن والشوارع تغيرت والمؤسسات كذلك. النفوس والأفكار والعلاقات كلها تغيرت. ولست بمعرض تقييم الكان وما كان. فالأمر يحتاج إلى كلام طويل لعله يأتي في سياقه.

الكاتب في الشأن التركي متهم لا تثبت براءته أبدا!!

بعد منتصف يوليو/ تموز الماضي وَعَدت بأن أكتب في مواضيع تتعلق بطبيعة العلاقات العراقية التركية وتجلياتها في مجال السياسة الخارجية منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى على ضوء أهم الاتفاقيات الدولية والثنائية التي تخص البلدين، لكي أتطرق من خلالها إلى موضوعات مهمة متعلقة بالحدود والنفط والاقتصاد والموصل وكركوك والأكراد والتركمان ودجلة والفرات ووجود ما يسميه العراقيون التدخل التركي في الشأن العراقي وما تسميه تركيا اتفاقيات حماية الحدود بين البلدين من الإرهاب والأحزاب الإرهابية…

طويلة هي حكايات الجوار العراقي التركي والخوض في تفصيلاتها ورطة لا بد منها، وعليك وأنت الكاتب العراقي العربي أن تثبت أنك لست عثمانيا ولست إسلاميا ولا تنكر سياسة التتريك.. التطرف مرض يحرم الكثيرين من المعارف والعلوم.

الكتابة المتداعية وقد وجبت

أعلمُ أن بلدي العراق يأبى أن ينكر طبعه. في تلك اللحظة كان كل رأي لا يطابق الرواية المجهولة يعتبر خيانة للوطن. لذلك فالعراق ما ذكر في التاريخ إلا وكان له نصيب من التطرف. تطرف في الحب، تطرف في الكرم، تطرف في الشجاعة، تطرف في العلم، تطرف في الدين، تطرف في القومية، تطرف في التمرد، تطرف في الظلم، تطرف في الحنين، تطرف في البكاء وتطرف في الكتابة… إلى ما شئت من أنواع التطرف. والغريب أن العالم لا يقبلك ولا يحبك إلا بكل ذلك.

وبينما أنا في أجواء التهيئة للخوض في أشراك الحكاية العراقية التركية، امتلأت الشوارع البغدادية بمظاهرات أنبتت من الأرض بشرًا، ولا أدري كيف تجمع مئات الآلاف بهذه السرعة على رأيٍ واحد دفاعا عن (السيد) المنسحب سياسيا بقرار قطعي مضحيا بأربعة وسبعين مقعدا برلمانيا لا ينافسه فيها أحد، ولا يحلم تيار آخر بمنافسته شعبيا. وسرعان ما ظهرت البندقية الصدرية كمكافئ للقوة أمام مناوئيهم المحترفين في الاستحواذ على السلطة والحكم.

مشهد، سريعا ما تغير بأمر مرجعي.. وهو يشبه فكرة خيال الجالس على بساط الريح

تغيرت الفكرة.. تنازل عن العمل السياسي. السيد مقتدى الصدر يعتذر عن إكمال المشوار استجابة لرغبة دينية مرجعية فرضت نفسها. أمر غريب كيف تسير سياسة هذا البلد. أين تبخر مصطلح “لا شرقية ولا غربية”. كيف تزينت السلطة للقادم الجديد وكيف تم تسليمها للخاسرين في الانتخابات؟ إنه مشهد لا يمكن مشاهدته إلا من خلال بساط الريح.

ليس الأمر عراقيا فقط. فقد كان في فترة المشاهدة دون كتابة، ما جرى في كأس العالم وعلى هامشه… السعودية تفوز على الأرجنتين في الأدوار الأولى.. وميسي يرفع كأس العالم مرتديا البشت العربي. وعلى هامش البطولة السيسي يصافح أردوغان والعكس صحيح. كذلك اليوم وأنا أكتب هذا المقال شاهدت لقطة تجمع وزيري خارجية كل من تركيا ومصر في تركيا. وقبلها بيوم يتداعى رؤساء البرلمانات العربية إلى أحضان بشار الأسد في دمشق. مشاهد مثيرة تمنحها رحلة بساط الريح ولكن الرحلة حقيقة لا خيال هذه المرة.

وقت الكتابة المتداعية

بدلًا من الوحدة الزمنية لكتابة الموضوعات المتجمعة. فكرت في اعتماد طريقة الأفكار المتداعية على طريقة قول الجواهري:

“لا تقترح لطف مخلوق وصورته * وخلها حرة تأتي بما تلد”.

لذلك أنصح من يريد الكتابة بأن يلقي بنفسه وسط بحر الناس الذين توحي تصرفاتهم بأنهم بلا هموم لكي يسمع منهم ويرى.. أنا قديما عندما كنت أريد البحث عن الراحة فإنني أفضل أن تتقاذفني أمواج البشر وأن أصبح مجرد واحد بين مئات لا أعرف منهم أحدًا ولا يهتم أحد منهم بمعرفتي.

وضمن فكرة أن لا كتابة إلا بطريقة الأفكار المتداعية وأن الكتابة لا ينبغي أن تكون إلا في أوقاتها، فقد وجبت مرحلة تحليل أحداث الرحلة. وأعتقد أن هناك معارك وملفات قادمة سيكون الحديث فيها من فوق الأماكن المحطمة ومن ضفاف البحار المهجورة في عالم فرضت عليه الهجرة والتشرد بعد احتلال البلدان والتقاء جموع المهاجرين الهاربين من نظم بلادهم، وانخراطهم جميعا في التجربة الثورية العربية وفي المجتمعات التي أفرزتها تلك التجربة.

عالم متغير وتسارع في الأحداث يثبث كل يوم عالمية الحدث والقضية. والكل يسير باتجاه حركة التاريخ التي هي حركة التغيير الحتمي.

المصدر : الجزيرة مباشر