أعمدة الاقتصاد التركي تقاوم الزلزال

 

لا شك أن الزلزال المروع الذي ضرب الأراضي التركية خلّف آثارًا مدمرة في الاقتصاد التركي، حيث أدى إلى خسائر قدرت بحوالي 100 مليار دولار وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة والبنك الدولي وبعض المنظمات التركية، وبلغ عدد المباني المتهدمة أو التي يجب هدمها بشكل عاجل أو المتضررة بشكل كبير حوالي 214 ألف مبنى، فيها 608 آلاف شقة سكنية، بخلاف الوحدات الصناعية، بالإضافة إلى تهجير 4 ملايين إنسان، وغير ذلك الكثير من الخسائر.

هذا الحجم الضخم للخسائر دفع الكثيرين إلى القول بأن الاقتصاد التركي قد تلقى ضربة قاصمة من شأنها إيقاف مسيرته المتصاعدة خلال الأعوام السابقة، وربما عادت به إلى الخلف مرة أخرى، لا سيما أن الولايات المنكوبة تمتد لمساحة 500 كيلو متر، تتنوع بها الأنشطة الاقتصادية ما بين السياحة والزراعة والصناعة.

تصاعد المؤشرات الاقتصادية

ورغم هذا التشاؤم الذي بدا منطقيًا بعد المشاهد المروعة للدمار الناجم عن الزلزال، إلا أن البيانات الاقتصادية التي بدأت تتوالى بعد أسابيع قليلة منه أشارت إلى استمرار تصاعد بعض المؤشرات الاقتصادية التي أكد البعض تأثرها سلبيًا في الكارثة، فبحسب بيانات مجلس المصدرين الأتراك، فإن الصادرات الزراعية حققت عائدات بقيمة 5 مليارات و434 مليون دولار، خلال أول شهرين من العام الحالي، محققة نموًا بنسبة 2.7%، مقارنة بالمدة نفسها من العام الماضي، والغريب أن الولايات المنكوبة حققت نموًا ملحوظًا لصادراتها الزراعية خلال شهر فبراير أي في فترة ما بعد الزلزال.

كما حطمت صادرات السيارات التركية رقمًا قياسيًا خلال فبراير، وذلك بعد نموها بنسبة 63.4% مقارنة بالشهر نفسه من العام الفائت 2022، وخلال فبراير الماضي فقط، صدّرت تركيا 81 ألفًا و148 مركبة، وهو أعلى معدل تصدير حتى الآن في الشهر المذكور، هذا النمو المتصاعد لهذه المؤشرات لا يعني أن الاقتصاد التركي لم يتأثر بتداعيات الزلزال، ولكنه يعني أن الاقتصاد التركي يمتلك مجموعة من الأعمدة والدعائم القادرة على التصدي والصمود في وجه هذه التداعيات.

ويمكن القول إن الاقتصاد التركي يتميز بثلاث من الخصائص التي تمثل أعمدة رئيسة تضمن استدامة تصاعده، كما تضمن قدرته على الصمود في مواجهة المخاطر المختلفة ومن بينها الزلزال.

فالخاصية الأولى الداعمة للاقتصاد التركي هي المرونة، التي تعني قدرته على زيادة كميات الإنتاج استجابة للزيادة في الطلب، ومما يدلل على ذلك بوضوح تزايد الصادرات التركية من 185 مليار دولار عام 2020 إلى 225 عام 2021، ثم 235 مليار دولار في نهاية 2022، ولا شك أن هذه القفزات المتسارعة لأرقام الصادرات تؤكد المرونة الإنتاجية العالية للغاية، حيث استطاع الإنتاج المحلي الاستجابة للطلب المتزايد على المنتجات التركية، هذا بخلاف ما استهلك محليًا من تلك المنتجات، وتكفي الإشارة هنا أن تركيا زارها العام الماضي ما يزيد عن 50 مليون سائح أدمجت احتياجاتهم ومشترياتهم وهداياهم في الطلب المحلي.

المرونة العالية للاقتصاد التركي تعني أن أكثر من 70 ولاية لم تتضرر من الزلزال تستطيع أن تلبي وبنسبة كبيرة الطلب على المنتجات المصنعة في الولايات الإحدى عشر المنكوبة، الأمر الذي يعني أن الضرر على الناتج المحلي الإجمالي يمكن أن يكون في أضيق الحدود، ولعل ذلك ما عبّر عنه بجلاء خفض البنك الدولي لتوقعات نمو الاقتصاد التركي من 4% إلى 3.5% أي بنصف في المئة فقط رغم فداحة خسائر الزلزال.

والخاصية الثانية التي يتمتع بها الاقتصاد التركي هي النمو المتوازن، الذي يعني انتشار التنمية على كامل ربوع الأراضي التركية، حيث تتمتع الولايات التركية التي يزيد عددها على 80 ولاية بمقدرات زراعية وصناعية وسياحية، صحيح أنه توجد ولايات تشتهر بصناعات بعينها مثل السيارات أو الحديد، ولكنه في الولاية نفسها توجد أنشطة أخرى، وقلما توجد ولاية تركية لا توجد بها معظم الأنشطة الاقتصادية الرئيسة.

النمو المتوازن للاقتصاد التركي وانتشاره في الولايات كافة يعني انحسار مساحة الخسائر في الولايات المتضررة، وأنه لا تزال أكثر من 70 ولاية تعمل بكامل طاقاتها الإنتاجية وفي مختلف الأنشطة، وأن هذه الولايات تستطيع أن تعوض النسبة المفتقدة من الإنتاج، والحفاظ على المستوى الإنتاجي المعتاد للدولة.

والخاصية الثالثة الداعمة للاقتصاد التركي هي التنوع، حيث تتمتع تركيا بالاكتفاء الذاتي من السلع الزراعية الأساسية، كما أنها أضحت منتجًا صناعيًا لمجموعة واسعة من السلع والآلات والمعدات والمنتجات المنزلية، هذا بالإضافة إلى صناعات الأسلحة التي اكتسبت سمعة دولية راقية حققت من خلالها صادرات قدرت بحوالي 4.5 مليارات دولار في العام الماضي.

50 مليون سائح

كما أن تركيا أحد أبرز خمس وجهات سياحية في العالم، فلم يكن العام الماضي هو المرة الأولى التي تستقبل فيها تركيا أكثر من 50 مليون سائح، حيث حققت ذلك قبيل أزمة كورونا عام 2019، وقد ساعدها على ذلك بنية سياحية متميزة تنتشر بكثافة في الولايات التركية كلها، التي يمكن أن تشكل وجهات بديلة للسياح عوضًا عن الولايات المنكوبة.

الخصائص الثلاث السابقة (المرونة والنمو المتوازن والتنوع) التي تشكل روافع وعمدًا رئيسة للاقتصاد التركي واستدامة تصاعده لا شك أنها تحسب لإدارة الرئيس أردوغان، فلا يمكن أن توجد إلا عن طريق تخطيط اقتصادي محكم يصاحبه إرادة سياسية ذات رؤية ثاقبة وتصميم وتفان وإخلاص دؤوب في العمل، وكلها خصائص أنقذت الاقتصاد التركي ليس فقط في أزمة الزلزال الحالية، بل من أزمات عدة متلاحقة توالت على تركيا في العشرين عامًا الأخيرة، واستطاعت ليس فقط عبورها بل أيضًا استمرار رفع مستوى مؤشراتها الاقتصادية.

 

المصدر : الجزيرة مباشر