الربيع الصامت ومخاطر المناخ وتهديد مستقبل البشرية

راشيل كارسون

لم تكن راشيل كارسون صاحبة كتاب “الربيع الصامت” الذي صدر عام 1962 تتوقع ولو للحظة واحدة أن تصل الأحوال المناخية في العالم إلى هذا الحد من تهديد حياة البشر، خاصة بعد ارتفاع درجات الحرارة حول العالم بهذا الجنون حيث وصلت إلى خمسين بل وستين درجة مئوية في بعض الأماكن، لدرجة اشتعال الحرائق في أوروبا، وقارات أخرى تتعرض لمخاطر كبيرة أيضًا، فقد كانت صرختها خجولة في البداية، ثم ارتفع صوتها تدريجيًا حيث بدأت بمشاعر إنسانية بتخوفها من ألا يكون هناك فصل للربيع واختفاء صوت العصافير خلال هذا الفصل بسبب ممارسات البشر الخاطئة تجاه البيئة، وتعريض حياة الكائنات الحية كافة على وجه الأرض للخطر، وربما انقراض بعض الطيور والحيوانات، فضلًا عن حياة الإنسان التي أصبحت في مرمى نيران هذه المخاطر أيضًا، وتحديدًا في السنوات الأخيرة التي أكدت ما جاء في الكتاب الصرخة والصادر منذ أكثر من ستين عامًا.

كارسون في مرمى النيران

وتعرّضت مؤلفة الكتاب لهجوم شديد من أصحاب الشركات ورجال الأعمال، وبالتأكيد الشركات الكيماوية وشركات الطاقة، وعلى رأسها البترول وغيره من أنواع الطاقة الأخرى، وفي القلب منها الوقود الأحفوري.

أكدت كارسون في كتبها العلاقة المتبادلة بين الكائنات الحية جميعها، واعتماد الرفاهية الإنسانية على العمليات الطبيعية، ويصف كتابها البحر حول الولايات المتحدة عام 1951 كيمياء البحر وجغرافيته وتاريخه، ولفت كتابها الربيع الصامت عام 1962 انتباه الرأي العام إلى الاستخدام الضار والمدمر لمبيدات الآفات.

بدأت كارسون حياتها المهنية عالمة أحياء مائية في مكتب مصايد الأسماك الأمريكي، وأصبحت كاتبة متفرغة في الخمسينيات، وفازت بجائزة الولايات المتحدة الأمريكية للكتاب الوطني عن كتابها «البحر من حولنا» الذي نشرته في عام 1951 الذي جعل منها هذا الكتاب من الشخصيات المشهورة والآمنة اقتصاديًا، وألفت كارسون كتابها الثاني بعنوان «حافة البحر» في عام 1955، وأعادت إصدار كتابها الأول بنسخة جديدة بعنوان «تحت رياح البحر».

حذّرت كارسون من المشاكل البيئية التي تعتقد أنها ناجمة عن المبيدات الحشرية مما دفعها لتأليف كتاب «الربيع الصامت» في عام 1962، وكان لهذا الكتاب دور كبير في لفت انتباه الأمريكيين لهذا الموضوع، وقد قوبل كتاب «الربيع الصامت» بمعارضة كبيرة من قبل شركات المواد الكيماوية، ولكنه أدى إلى تغيير أسلوب تعامل السياسات الوطنية مع المبيدات الحشرية.

أسهمت كارسون في وضع قيود على استخدام المبيدات الحشرات في العديد من أجزاء العالم، وكان لها دور في قيام حركة بيئية أدت إلى إنشاء وكالة حماية البيئة الأمريكية، حصلت كارسون بعد وفاتها على وسام الحرية الرئاسي من قبل الرئيس جيمي كارتر.

الزهو القاتل

في النصف الثاني من القرن العشرين أصيب الإنسان بداء الزهو من خلال الإنجازات التكنولوجية التي حصل عليها، الكومبيوترات، التلفونات القافزة، التلفزيونات غدت رقيقة بالتعريف العالي، أجهزة من المسارقات التي تقطع الجسم إلى شرائح تسهل قراءة الأمراض، رحلات إلى الفضاء وأشياء أُخر تعد ولا تحصى، بيد أن الزهو كشف عن أن الماء الذي نشربه ملوث بالمعادن والاسبستات والمكروبات، والهواء الذي نستنشقه ملوث بالعوالق المنبعثة من المداخن ومخارج السيارات، القنابل العنقودية، النفايات النووية، نفايات الصناعة التي رميت في البحار والمحيطات، وأما الغذاء الذي نأكله نحن أبناء هذا العصر الحديث المتقدم فهو غذاء محمل بالكيمياويات المسرطنة، فالإنسان في عصر فوق الحداثة أصبح يتنفس هواء ملوثًا ويشرب ماء ملوثًا.

وعندما استيقظت البشرية على صرخة كارسون المرعبة تقرر عقد مؤتمرات دولية عدة، لمواجهة مخاطر المناخ والاعتداء على البيئة، فقد عقد أول مؤتمر دولي في هذا السياق بستوكهولم عام 1972 ورديوجانيير 1992، نيويورك 1997، نيويورك 2000، جوهانسبرغ 2002، نيويورك 2005، نيويورك 2008، نيويورك 2010، ريو 2012، نيويورك 2013، نيويورك 2015، ستوكهولم 2022.

وكان مؤتمر السويد في عام 1972 الذي نظمته الأمم المتحدة المعني بالبيئة البشرية أول مؤتمر رئيس للأمم المتحدة بشأن قضية البيئة، واعتمد المؤتمر إعلان وخطة عمل ستوكهولم الذي حدد مبادئ الحفاظ على البيئة البشرية وتعزيزها مع توصيات للعمل البيئي الدولي، كما أنشأ المؤتمر برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)، وهو أول برنامج للأمم المتحدة يعمل فقط على القضايا البيئية.

قمة الأرض

بعد عشرين عامًا، في قمة الأرض التاريخية في ريو دي جانيرو بالبرازيل عام 1992، سعت الأمم المتحدة إلى مساعدة الحكومات على إعادة التفكير في التنمية الاقتصادية، وإيجاد طرق لوقف تلويث الكوكب واستنفاد موارده الطبيعية.

كانت “قمة الأرض” التي استمرت لمدة أسبوعين ذروة عملية بدأت في ديسمبر 1989، للتخطيط والتعليم والمفاوضات بين الدول الأعضاء جميعها في الأمم المتحدة، مما أدى إلى اعتماد جدول أعمال القرن الـ21، وهو توافق عالمي رسمي في الآراء بشأن التنمية والتعاون البيئي.

كان الأساس لجدول أعمال القرن الـ21 هو الإقرار بأن حماية البيئة تتطلب التعاون الدولي عبر الحدود، وكان جدول أعمال القرن الـ21 معني بأن يعكس إجماعًا دوليًا لدعم الاستراتيجيات والخطط الوطنية للتنمية المستدامة وتكملتها، ودعا الدول جميعها إلى المشاركة في تحسين النظم الإيكولوجية وحمايتها وإدارتها بشكل أفضل، وتحمل مسؤولية المستقبل بنهج تشاركي.

ونتج عن قمة الأرض أيضًا إعلان ريو الذي تضمن 27 مبدأ بشأن الشراكات الجديدة والمنصفة والتنمية من خلال التعاون بين الدول والقطاعات الاجتماعية والأفراد، لأنها تعكس مسؤولية البشر عن التنمية المستدامة، وحق الدول في استخدام مواردها الخاصة لسياساتها البيئية والإنمائية، والحاجة إلى تعاون الدولة في القضاء على الفقر وحماية البيئة، فكانت الفكرة أن الدول يجب أن تعمل بروح الشراكة العالمية للحفاظ على سلامة النظام الإيكولوجي للأرض وحمايته واستعادته.

في مؤتمر ريو التاريخي، اعتمدت الـ172 حكومة (108 ممثلة برؤساء دول أو حكومات) ثلاث اتفاقيات رئيسة لتوجيه النهج المستقبلية للتنمية: جدول أعمال القرن الـ21، وإعلان ريو، وكذلك بيان مبادئ الغابات، وهي مجموعة من المبادئ لدعم الإدارة المستدامة للغابات في جميع أنحاء العالم، بالإضافة إلى ذلك، فتح “صكين” ملزمين قانونًا للتوقيع في القمة: اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ واتفاقية التنوع البيولوجي، وعلاوة على ذلك، فقد بدأت المفاوضات بشأن اتفاقية مكافحة التصحر، التي فُتح باب التوقيع عليها في أكتوبر 1994، ودخلت حيز التنفيذ في ديسمبر 1996، وقد تميز مؤتمر ريو عن مؤتمرات الأمم المتحدة الأخرى بحجمه ومجموعة المشاكل التي تمت مناقشتها، وعملت الأمم المتحدة في ريو دي جانيرو لمساعدة الحكومات على التفكير في التنمية الاقتصادية، وإيجاد طرق لإنهاء تدمير الموارد الطبيعية التي لا يمكن تعويضها، وتلوث الكوكب.

قمة الحكومات والشركات

وجمعت قمة العمل المناخي، التي انعقدت في عام 2019، ممثلي الحكومات والشركات والمجتمع المدني التي أسفرت عن مجموعة من المبادرات لتعزيز العمل المناخ، وتمضي هذه المبادرات المؤلفة من ائتلافات المشاركين من القطاعين العام والخاص قدمًا وتؤتي ثمارها بعض الشيء.

في الدورة الحادية والعشرين لمؤتمر الأطراف في باريس، 12 ديسمبر 2015، توصلت الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ إلى اتفاق تاريخي لمكافحة تغير المناخ وتسريع وتكثيف الإجراءات والاستثمارات اللازمة لمستقبل مستدام ذات انبعاثات منخفضة من الكربون، وكان الهدف الأساس لاتفاقية باريس هو تعزيز الاستجابة العالمية لخطر تغير المناخ، من خلال الحفاظ على ارتفاع درجة الحرارة العالمية هذا القرن أقل بكثير من درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل الصناعة، ومتابعة الجهود للحد من زيادة درجة الحرارة بدرجة أكبر حتى 1.5 درجة مئوية.

مؤتمرات للتسول وعدم الوفاء بالوعود

وتم عقد مؤتمرات عدة أخرى جلاسكو 2022، شرم الشيخ 2022، ودبي 2023 من أجل تفعيل المقررات والتوصيات السابقة واتخاذ إجراءات جادة، لكن بعض هذه المؤتمرات تحولت إلى مؤتمرات للتسول وابتزاز الدول الغنية، ورغم الزخم الكبير إلا أن الأمور لم يحدث فيها جديد، فرغم صدور العديد من التوصيات في المؤتمرات الدولية للحفاظ على البيئة ومحاربة كل أشكال الاعتداء على البيئة، إلا أنه للأسف كانت هذه النتيجة التي يعيشها العالم بسبب تعنّت الشركات الكبرى ورفضها تنفيذ هذه التوصيات، بل هناك جرائم أخرى ضحيتها دول العالم الثالث جراء هذه الممارسات، حيث وصل الأمر لدفن النفايات النووية بهذه الدول الفقيرة وغيره من الممارسات الأخرى، كما رفضت هذه الشركات تقديم الدعم الكافي والتعويض اللازم رغم تدخل الأمم المتحدة وبعض الدول الكبرى، لكن لم تسفر عن نتائج كبيرة، وظلت الشركات وبعض الدول تصر على  ممارساتها تجاه البيئة حتى أوصلت الأرض إلى هذه الدائرة الجهنمية التي نعيشها الآن، وتهدد مستقبل البشرية بالفناء.

 

المصدر : الجزيرة مباشر