الثورة السورية.. تضخ الدماء في أوصالها مجددا

مظاهرات السويداء ضد الأسد

 

مجددا أعادت الثورة السورية تقديم نفسها إلى المجتمع الدولي، في انتظار ما ستؤول إليه الأحداث في العديد من البؤر الملتهبة في الأراضي السورية.

اشتعال الأحداث يبدو حتى اللحظة عفويا غير متناسق، مبعثه الجماهير وليس التنظيمات أو الجماعات، ولعل هذا ما يكسبها قوة إضافية، فهبات الشعوب التلقائية لها من القوة الكفيلة بهز الأرض تحت أقدام أي نظام مهما بلغت سيطرته وتحكمه، وليس هناك من يماثل نظام دمشق في قوة أجهزته الأمنية وتعددها وتغلغلها في أوصال المجتمع، ونجاحها في بناء جدار صلد من الخوف من خلال دماء مئات آلاف الأبرياء ومعاناة ملايين آخرين بين النزوح واللجوء.

ثلاثة مشاهد متزامنة، أعادت ضخ الدماء في أوصال الثورة، في وقت كان مسار إعادة تأهيل نظام بشار الأسد يسير على قدم وساق وإن لم يؤت أكله حتى الآن لأسباب ليس هنا محل شرحها وبسطها، لكنها أثبتت أن تعويم ذلك النظام أمر لا يتوافق مع حقائق الأشياء فقد ارتكب في حق شعبه من الجرائم ما لا يمكن تصور ارتكابه من أي محتل خارجي.

السويداء.. الدروز يجددون شعارات الثورة

في مدينة السويداء جنوبي سوريا أعاد الدروز -الذين يشكلون سكان المدينة- إلى الحياة مجددا شعارات الثورة التي انطلقت عام 2011 بهتافهم “بشار بره.. سوريا حرة”.

المظاهرات اندلعت الشهر الماضي على خلفية سوء الأوضاع الاقتصادية وصعوبة الحياة المعيشية، لكنها سرعان ما تحولت إلى حالة رفض للنظام البعثي، حيث هاجم محتجون مقار حزب البعث وحطموا صور بشار وطالبوا بإنهاء حكمه عبر تجمعات كبيرة من أبناء المدينة.

تاريخ آل الأسد بالدروز في المنطقة ليس بالجيد، ففي لبنان المجاورة، أشارت التحقيقات -التي طويت بعد ذلك- إلى تورط نظام حافظ الأسد في اغتيال الزعيم الدرزي، ومؤسس الحزب التقدمي الاشتراكي، كمال جنبلاط في مارس 1977 إثر تدهور العلاقات بين الطرفين على خلفية تموضع كل طرف في الحرب الأهلية اللبنانية.

ثم كانت محاولة اغتيال نجله وليد جنبلاط في ديسمبر 1982 بواسطة سيارة مفخخة نجا منها بأعجوبة، وقال وليد بعد ذلك بسنوات في لقاء متلفز، إن القائد في القوات اللبنانية إيلي حبيقة اعترف له أنه من دبر له هذه المحاولة، وكان معروفا أن حبيقة على علاقة وثيقة بالمخابرات السورية قبل اغتياله في يناير 2022.

إذن ظلت العلاقة بين نظام الأسد والدروز عموما علاقة مفخخة منذ عشرات السنين، لذا لم يكن من المتصور أن يشعروا يوما ما بالثقة في نظامه ذي البعد الطائفي الواضح، خاصة أنها ليست المرة الأولى التي تنتفض فيها السويداء.

درعا على خطى الثورة مجددا

وغير بعيد من السويداء شهدت مدينة درعا ونواحيها مظاهرات عارمة ضد نظام الأسد على وقع الأزمة الاقتصادية وتداعياتها الممتدة إلى حياة المواطنين وأمنهم الغذائي والمعيشي.

وتعيش درعا أوضاعا أمنية هشة وصعبة، منذ دخول قوات النظام إليها عام 2018 إثر اتفاقية فرضتها روسيا على الأهالي وفصائل المعارضة التي كانت تسيطر على المدينة.

لكن دخول القوات الحكومية إلى المدينة، لم يحل دون انتشار عمليات التصفية الجسدية وتجارة المخدرات، والاختطاف الذي كان يتطور إلى القتل لاحقا أو الإخفاء القسري.

هذه العوامل مجتمعة دفعت المدينة إلى تجديد ذكريات الثورة وخروج المواطنين إلى الطرقات، لا طلبا لتحسين ظروف المعيشة بل لرحيل النظام نفسه، بعد أن أدركوا أن الأزمة تكمن فيه، وفي سوء إدارته، وفساد بنيته وليس في غيابه!

دير الزور.. ثورة العشائر العربية

المشهد الثالث يأتينا من شرق سوريا حيث مدينة دير الزور، التي كان يسيطر عليها قوات ميليشيا “سوريا الديمقراطية” التي يطلق عليها اختصارا “قسد” والتي تتشكل ظاهريا من العرب والأكراد، لكن فعليا يسيطر عليها ويسيرها بالتنسيق مع القوات الأمريكية، تنظيم حزب العمال الإرهابي PKK وفرعه السوري، قوات الحماية الكردية!

المهمة المعلنة لتلك القوات منذ تشكلها المساعدة في مواجهة تنظيم داعش الإرهابي، لكن المهمة الإضافية غير المعلنة هي إعادة تشكيل المنطقة ديموغرافيا بطرد السكان العرب الأصليين، تمهيدا لإعلان انفصالها وتشكيل كيان انفصالي يمتد من القامشلي والحسكة شرقا إلى البحر المتوسط غربا.

تسيطرهذه الميليشيا على أكثر من 25% من مساحة سوريا الإجمالية، حيث تسيطر على دير الزور والحسكة والقامشلي والرقة وأجزاء من ريف حلب الشمالي وصولا إلى مناطق غرب الفرات.

لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد انتفضت العشائر العربية في مدينة دير الزور لاستعادة السيطرة العربية على المدينة وصولا إلى الرقة ومن بينها مناطق النفط التي يسيطر عليها التنظيم ويمول من عوائدها أنشطته المختلفة.

مواجهات العشائر في دير الزور ونواحيها، امتد أثرها إلى ريف حلب الشمالي، فأعلنت القبائل العربية الانتفاضة في مواجهة التنظيم حيث تحاول طرده من مدينة منبج التي تسيطر عليها الميليشيا، فيما سارعت الطائرات الروسية بقصف قوات العشائر في البلدات التي نجحت في استردادها من التنظيم.

التحرك العشائري المفاجئ قد يعيد ترتيب المنطقة خاصة إذا ما وجد الدعم من تركيا التي يهمها نجاح هذا التحرك، الذي سيصب في مصلحة أمنها القومي، إذ تعمل منذ سنوات على طرد قوات “قسد” من مناطق غرب الفرات وخاصة منبج، لكنها كانت تصطدم دائما بالفيتو الأمريكي والروسي، فلجأت إلى استراتيجية بديلة بتحييد قادة التنظيم في شمالي سوريا والعراق.

إذن تعود الثورة السورية إلى الواجهة مجددا بذات الرداء الذي ارتدته يوم انطلاقتها وأعني الرداء الشعبي، وإذا ما أرادت توظيف ذلك الزخم لتحقيق مكاسبها المؤجلة فعليها أن تحافظ عليه ولا تسمح بتجييرها لصالح هذا التنظيم أو ذاك كما حدث بدءا من عام 2013.

 

المصدر : الجزيرة مباشر