قيادات المقاومة الإسلامية الفلسطينية والخيال السياسي
تقدم لنا المقاومة الفلسطينية الكثير من الدروس التي يمكن أن تسهم في تطوير نظريات علمية جديدة، من أهمها أن القائد يجب أن يمتلك خيالا سياسيا يُمكّنه من قراءة الواقع واستشراف المستقبل، حيث قررت المقاومة أن تفرض شروطها، وتدير الصراع برؤية تقوم على البحث عن مصادر القوة واستثمارها.
من أهم مصادر القوة ذلك الصمود الذي تمكنت به المقاومة من كسب إعجاب الشعوب، التي أصبحت تحتاج إلى المثال والقدوة في كفاحها لانتزاع حريتها وفرض إرادتها، فالقوة الغاشمة “الصهيوأمريكية” لم تستطع أن تكسر إرادة المقاومة، التي اعتمدت على شجاعة الرجال في ميادين القتال، الذين استخدموا أسلحتهم التي قاموا بتصنيعها بأنفسهم في مواجهة أحدث أسلحة الإبادة الأمريكية.
أمريكا لن تتحمل انتشار النموذج
بخيالها السياسي أدركت قيادات حماس أن أمريكا لن تتحمل انتشار النموذج الذي قدمته المقاومة في عالم يتزايد فيه العداء لأمريكا، وإدراك الشعوب لدور أمريكا في إفقارها، وفرض الأنظمة المستبدة التابعة عليها، وأن الكثير من شعوب العالم يمكن أن تقلد نموذج غزة، وتتحرر من خوفها من القوة الغاشمة، فتنتفض وتثور وتقاوم وتدافع عن حقها في الحرية والحياة.
وأمريكا تؤيد دولة الاحتلال الاسرائيلي، وتمدها بكل أسباب الحياة، لكن ماذا يمكن أن تفعل عندما يتسع الصراع، وتشهد المنطقة انفجارا لا تستطيع أن تتوقع آثاره التي يمكن أن يكون من أهمها انسحابها من المنطقة، ولا يمكن أن يكون النظام الأمريكي قد نسي هزيمته في أفغانستان.
كما أن موعد الانتخابات الأمريكية يقترب، وتتزايد احتمالات الخطر على وحدة الولايات المتحدة وتماسكها، وليس من مصلحة بايدن أن يدخل الانتخابات في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة، فالعالم كله يدرك أن أمريكا شريك في المذابح وعمليات الإبادة التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي، وهذا يسهم في تشويه صورة أمريكا.
في ضوء ذلك يمكن أن نفهم جولة وزير الخارجية الأمريكي الذي يريد التوصل إلى اتفاق يحقق لـ”النتن ياهو” صورة نصر لا يمكن أن يحققه بالحرب.
إسرائيل تواجه أزمة تهدد وجودها!
الخيال السياسي يمكن أن يوضح لنا أن دولة الاحتلال الإسرائيلي بالرغم من غرورها واستكبارها ودعايتها لا يمكن أن تحقق نصرا، فالعدوان الإسرائيلي يدخل الشهر الخامس، وقد دمر الجيش الإسرائيلي غزة، وارتكب المذابح، لكنه لم يستطع أن يحقق أي هدف، وحماس ما زالت تدير المعركة بكفاءة، وتسيطر علي ميدان القتال.
تحليل خطاب “النتن ياهو” يوضح أنه يبحث عن مخرج، لكن كل البدائل قاسية وخطيرة، ولا يستطيع أن يتحملها، وقد أصبح عاجزا عن التفكير، ويفتقد الشجاعة لمواجهة الحقائق.
أما عائلات الأسرى الإسرائيليين فقد أصبحت تدرك أنه لا يمكن استعادتهم إلا عن طريق صفقة مع حماس تضمن تحرير كل الأسرى الفلسطينيين، وعندما يرفض “النتن ياهو” هذه الصفقة، فإنه يغامر بحياتهم، فإن كان قد عجز طوال الأشهر الماضية عن تحقيق هدفه، فإنه بالتأكيد لن يحققه مهما فعل.
أزمة الأنظمة العربية تتزايد
أما الأنظمة العربية، فإنها تواجه الكثير من الأزمات، التي تتزايد حدتها مع شعور الجماهير العربية بأنها خذلت المقاومة الفلسطينية، بسبب الخوف من قوة الأنظمة الغاشمة، وهذا الشعور يمكن أن يفجّر طوفان الغضب على تلك الأنظمة التابعة العاجزة.
كثير من الدول العربية تواجه أزمات اقتصادية، ويتزايد فيها الفقر المرتبط بالقهر وانتهاك حقوق الإنسان واحتقار الشعوب، وانتشار اليأس والإحباط، وظهور فشل هذه الأنظمة وعجزها عن تقديم حلول لهذه الأزمات، وكل ما يفعله المنافقون نشر المعلومات الكاذبة عن إنجازات وهمية، وانهيار سعر الدولار بسبب الحصول على قروض جديدة أو بيع الأصول.
فهل يمكن أن تدرك هذه الأنظمة أن استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة، وإبادة الفلسطينيين وتهجيرهم يزيد حدة أزماتها، ويهدد بانفجار شعبي تتجمع الآن كل أسبابه وشروطه.
من حق حماس أن تفرض شروطها!
لذلك قام الخيال السياسي لقادة حماس بدوره في صياغة ردها الذكي على مقترحات عقد صفقة تبادل الأسرى، فقبلت تلك المقترحات، لكن بعد أن أضافت إليها شروطها التي تدرك شعوب العالم أنها عادلة، وأنها ضرورية لحماية الشعب الفلسطيني، وضمان حقوقه.
كما تدرك حماس أن أمريكا ستبذل كل جهدها لعقد هذه الصفقة، إذ إنها تدرك أن رمضان يقترب، وهو شهر يمكن أن يحمل الكثير من المفاجآت، فالشعوب الإسلامية لا يمكن أن تتحمل رؤية المسلمين الفلسطينيين يتعرضون للإبادة والجوع، والناس تخرج لصلاة التراويح في المساجد، ولن تستطيع القوة الغاشمة للأنظمة الحاكمة مواجهة الغضب.
وفي الوقت نفسه، يؤمن المسلمون بأن رمضان يحمل لهم ذكريات الانتصارات في الكثير من المعارك التاريخية، وهم ينتظرون هذا النصر، وأبطال المقاومة في فلسطين سيثيرون خيال المسلمين بزيادة تصديهم لقوات الاحتلال الإسرائيلي.
كما أن المسلمين سيتزايد إصرارهم على الوصول إلى المسجد الأقصى للصلاة فيه، وسيؤدي ذلك إلى المزيد من المواجهات مع قوات الاحتلال التي ستحاول منعهم، مما سيزيد التوتر في الضفة الغربية.
كل ذلك سيدفع كل الأطراف للبحث عن حل، لا يمكن أن يتم التوصل إليه بدون قبول شروط المقاومة أو معظمها، لكن قبولها يعني تسليم “النتن ياهو” بالهزيمة، ومواجهة السقوط السياسي.
لذلك تحتاج إدارة الصراع إلى خيال سياسي يكتشف الفرص ويستثمرها، ويستخدمه القادة في توقع التغيير واستشراف المستقبل.